كتاب الطهارة
Thursday, July 17, 2014
Berlangganan

كتاب الطهارة



سبل السلام
شرح بلوغ المرام

للصنعاني


كتاب الطهارة

الكتاب والطهارة في الأصل: مصدران أضيفا وجعلا اسماً لمسائل من مسائل الفقه، تشتمل على مسائل خاصة.
وبدأ بالطهارة اتباعاً لسنة المصنفين في ذلك، وتقديماً للأمور الدينية على غيرها، واهتماماً بأهمها وهي الصلاة. ولما كانت الطهارة شرطاً من شروطها بدأ بها، وهي اسم مصدر، أي: طهر تطهيراً وطهارة، مثل: كلم تكليماً وكلاماً.
وحقيقتها: استعمال المطهرَيْن: أي الماء والتراب، أو أحدهما، على الصفة المشروعة في إزالة النجس، والحدث؛ لأن الفقيه إنما يبحث عن أحوال أفعال المكلفين من الوجوب وغيره.
ثم لما كان الماء هو المأمور بالتطهّر به أصالة قدمه فقال:
باب المياه
الباب لغة: ما يدخل ويخرج منه. قال تعالى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وهو هنا مجاز؛ شبه الدخول إلى الخوض في مسائل مخصوصة بالدخول في الأماكن المحسوسة، ثم أثبت لها الباب.
والمياه: جمع ماء، وأصله: موه ولذا ظهرت الهاء في جمعه، وهو جنس يقع على القليل والكثير، إلا أنه جمع لاختلاف أنواعه باعتبار حكم الشرع، فإن فيه ما ينهى عنه وفيه ما يكره. وباعتبار الخلاف أيضاً في بعض المياه كماء البحر، فإنه نقل الشارح الخلاف في التطهّر به عن ابن عمر، وابن عمرو.
وفي النهاية: أن في كون ماء البحر مطهّراً خلافاً لبعض أهل الصدر الأول، وكأنه لقدم الخلاف فيه بدأ المصنف بحديث يفيد طهوريته، وهو حجة الجماهير.
عن أبي هُرَيْرَة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، في البَحْرِ: "هُوَ الطّهُورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيْتَتُهُ" أخرجهُ الأربعةُ، وابنُ أبي شَيْبَةَ، واللفظُ لَهُ، وصححهُ ابنُ خُزيمةَ، والترمذي.
(عن أبي هريرة رضي الله عنه) الجار والمجرور متعلّق بمقدر كأنه قال: باب المياه أروي فيه، أو أذكر، أو نحو ذلك حديثاً عن أبي هريرة. وهو الأول من أحاديث الباب.
وأبو هريرة هو الصحابي الجليل الحافظ المكثر، واختلف في اسمه واسم أبيه على نحو من ثلاثين قولاً. قال ابن عبد البر: الذي تسكن النفس إليه من الأقوال: أنه عبد الرحمن بن صخر، وبه قال محمد بن إسحاق. وقال الحاكم أبو أحمد: ذكر لأبي هريرة في مسند بقي بن مخلد خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثاً. وهو أكثر الصحابة حديثاً، فليس لأحد من الصحابة هذا القدر، ولا ما يقاربه. قلت: كذا في الشرح. والذي رأيته في الاستيعاب، لابن عبد البر بلفظ: إلا أن عبد الله أو عبد الرحمن هو الذي يسكن إليه القلب في اسمه في الإسلام ثم قال فيه ـ أي الاستيعاب ـ: مات في المدينة سنة تسع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة، ودفن بالبقيع. وقيل: مات بالعقيق، وصلى عليه الوليد بن عقبة بن أبي سفيان، وكان يومئذ أميراً على المدينة، كما قاله ابن عبد البر.
(قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في البحر) أي: في حكمه، والبحر: الماء الكثير، أو المالح فقط كما في القاموس، وهذا اللفظ ليس من مقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، بل مقوله: (هو الطهور) بفتح الطاء، هو المصدر واسم ما يتطهر به؛ أو: الطاهر المطهر كما في القاموس. وفي الشرع: يطلق على المطهر، وبالضم مصدر. وقال سيبويه: إنه بالفتح لهما، ولم يذكره في القاموس بالضم (ماؤه) هو فاعل المصدر، وضمير ماؤه يقتضي أنه أريد بالضمير في قوله: هو الطهور: البحر يعني مكانه، إذ لو أريد به الماء لما احتيج إلى قوله: ماؤه، إذ يصير في معنى الماء طهور ماؤه، (الحلُّ) هو مصدر حل الشيء ضد حرم، ولفظ الدارقطني الحلال (مَيْتَتُهُ) هو فاعله أيضاً (أخرجه الأربعة، وابن أبي شيبة) هو أبو بكر. قال الذهبي في حقه: الحافظ العديم النظير الثبت النحرير، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، صاحب المسند والمصنف وغير ذلك، وهو من شيوخ البخاري، ومسلم، وأبي داود، وابن ماجه (واللفظ له) أي: لفظ الحديث السابق سرده لابن أبي شيبة، وغيره ممن ذكر أخرجوه بمعناه. (وصححه ابن خزيمة) بضم الخاء المعجمة فزاي بعدها مثناة تحتية فتاء تأنيث. قال الذهبي: الحافظ الكبير إمام الأئمة شيخ الإسلام، أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، انتهت إليه الإمامة والحفظ في عصره بخراسان (و) صححه (الترمذي) أيضاً فقال عقب سرده: هذا حديث صحيح. هذا لفظ الترمذي، كما في مختصر السنن للحافظ المنذري.
وحقيقة الصحيح عند المحدثين ما نقله عدل تام الضبط، عن مثله، متصل السند، غير معلّ، ولا شاذ.
هذا، وقد أخرج المصنف هذا الحديث في التلخيص من تسع طرق عن تسعة من الصحابة، ولم تخلُ طريق منها عن مقال، إلا أنه قد جزم بصحته من سمعت، وصححه ابن عبد البر، وصححه ابن منده، وابن المنذر، وأبو محمد البغوي.
قال المصنف: وقد حكم بصحة جملة من الأحاديث لا تبلغ درجة هذا ولا تقاربه.
قال الزرقاني في شرح الموطأ: وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام، تلقته الأمة بالقبول، وتداوله فقهاء الأمصار في سائر الأعصار في جميع الأقطار، ورواه الأئمة الكبار. ثم عد من رواه، ومن صححه.
والحديث وقع جواباً عن سؤال كما في الموطأ: "أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل" وفي مسند أحمد: "من بني مدلج" وعند الطبراني "اسمه عبد الله، إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضّأنا به عطشنا، أفنتوضأ به"؟
وفي لفظ أبي داود: "بماء البحر" فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته".
فأفاد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن ماء البحر طاهر مطهر، لا يخرج عن الطهورية بحال، إلا ما سيأتي من تخصيصه بما إذا تغير أحد أوصافه، ولم يجب صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بقوله: نعم، مع إفادتها الغرض، بل أجاب بهذا اللفظ ليقرن الحكم بعلّته، وهي الطهورية المتناهية في بابها، وكأنّ السائل لما رأى ماء البحر خالف المياه بملوحة طعمه، ونتن ريحه، توهم أنه غير مراد من قوله تعالى: {} أي بالماء المعلوم إرادته من قوله: {} أو أنه لما عرف من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً} ظن اختصاصه، فسأل عنه، فأفاده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الحكم، وزاده حكماً لم يسأل عنه، وهو حل ميتته.
قال الرافعي: لما عرف صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اشتباه الأمر على السائل في ماء البحر، أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته.
وقد يبتلى بها راكب البحر، فعقب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة. قال ابن العربي: وذلك من محاسن الفتوى، أن يجاء في الجواب بأكثر مما سئل عنه، تتميماً للفائدة، وإفادة لعلم غير المسؤول عنه. ويتأكد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحكم، كما هنا، لأن من توقف في طهورية ماء البحر، فهو عن العلم بحل ميتته مع تقدم تحريم الميتة أشد توقفاً. ثم المراد بميتته: ما مات فيه من دوابه: مما لا يعيش إلا فيه. لا ما مات فيه مطلقاً، فإنه وإن صدق عليه لغة أنه ميتة بحر، فمعلوم أنه لا يراد إلا ما ذكرنا. وظاهره حل ما مات فيه، ولو كان كالكلب والخنزير، ويأتي الكلام في ذلك في بابه إن شاء الله تعالى.
وعَنْ أبي سعيد الخُدْرِي رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ المَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ" أخرَجَهُ الثلاثةُ، وصَححهُ أحمدُ.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه) اسمه سعد بن مالك بن سنان الخزرجي الأنصاري الخدري. بضم الخاء المعجمة ودال مهملة ساكنة نسبة إلى خدرة حي من الأنصار كما في القاموس. قال الذهبي: كان من علماء الصحابة، وممن شهد بيعة الشجرة، وروى حديثاً كثيراً، وأفتى مدة. عاش أبو سعيد ستاً وثمانين سنة، ومات في أول سنة أربع وسبعين، وحديثه كثير وحدث عنه جماعة من الصحابة، وله في الصحيحين أربعة وثمانون حديثاً.
(قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إن الماء طهور لا ينجسه شيء. أخرجه الثلاثة) هم أصحاب السنن، ما عدا ابن ماجه، كما عرفت (وصححه أحمد) قال الحافظ المنذري في مختصر السنن: ــــ إنه تكلم فيه بعضهم، لكن قال: حكي عن الإمام أحمد أنه قال: حديث بئر بضاعة صحيح. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد جود أبو أسامة هذا الحديث، ولم يروَ حديث أبي سعيد في بئر بضاعة بأحسن مما روى أبو أسامة. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد.
والحديث له سبب وهو: "أنه قيل لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن؟ فقال: الماء طهور" الحديث، هكذا في سنن أبي داود، وفي لفظ فيه: "إن الماء" كما ساقه المصنف.
واعلم أنه قد أطال هنا في الشرح المقال، واستوفى ما قيل في حكم المياه من الأقوال، ولنقتصر في الخوض في المياه على قدر يجتمع به شمل الأحاديث، ويعرف به مأخذ الأقوال ووجوه الاستدلال فنقول:
قد وردت أحاديث يؤخذ منها أحكام المياه، فمنها: حديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء".
وحديث: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث".
وحديث: "الأمر بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي في المسجد".
وحديث: "إذا استيقظ أحدكم فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً".
وحديث: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه".
وحديث: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم" الحديث. وفيه الأمر بإراقة الماء الذي ولغ فيه. وهي أحاديث ثابتة ستأتي جميعها في كلام المصنف.
إذا عرفت هذا، فإنه اختلفت اراء العلماء رحمهم الله تعالى، في الماء إذا خالطته نجاسة، ولم تغير أحد أوصافه:
فذهب القاسم، ويحيى بن حمزة، وجماعة من الآل، ومالك، والظاهرية وأحمد في أحد قوليه، وجماعة من أصحابه إلى: أنه طهور، قليلاً كان أو كثيراً، عملاً بحديث: "الماء طهور" وإنما حكموا بعدم طهورية ما غيّرت النجاسة أحد أوصافه، للإجماع على ذلك؛ كما يأتي الكلام عليه قريباً.
وذهب الهادوية، والحنفية، والشافعية إلى قسمة الماء إلى قليل تضرّه النجاسة مطلقاً، وكثير لا تضرّه، إلا إذا غيرت بعض أوصافه، ثم اختلفوا بعد ذلك في تحديد القليل والكثير.
فذهب الهادوية إلى تحديد القليل بأنه: ما ظن المستعمل للماء الواقعة فيه النجاسة استعمالها باستعماله، وما عدا ذلك فهو الكثير.
وذهب الحنفية إلى تحديد الكثير من الماء: بما إذا حرّك أحد طرفيه ادمي، لم تسر الحركة إلى الطرف الاخر؛ وهذا رأي الإمام، وأما رأي صاحبيه، فعشرة في عشرة، وما عداه فهو القليل.
وذهب الشافعية إلى تحديد الكثير من الماء بما بلغ قلتين من قلال هجر وذلك نحو خمسمائة رطل، عملاً بحديث القلتين، وما عداه فهو القليل.
ووجه هذا الاختلاف تعارض الأحاديث التي أسلفناها: فإن حديث الاستيقاظ، وحديث الماء الدائم يقضيان: أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء، وكذلك حديث الولوغ، والأمر بإراقة ماء ولغ الكلب فيه. وعارضها حديث بول الأعرابي، والأمر بصب ذنوب من ماء عليه؛ فإنه يقتضي أن قليل النجاسة لا ينجس قليل الماء. ومن المعلوم أنه قد طهر ذلك الموضع الذي وقع عليه بول الأعرابي بذلك الذنوب، وكذلك قوله: "الماءُ طَهورٌ لا ينجِّسُهُ شيء".
فقال الأولون وهم القائلون: لا ينجسه شيء، إلا ما غير أحد أوصافه: يجمع بين الأحاديث بالقول بأنه لا ينجسه شيء، كما دلّ له هذا اللفظ، ودلّ عليه حديث بول الأعرابي.
وأحاديث الاستيقاظ، والماء الدائم، والولوغ ليست واردة لبيان حكم نجاسة الماء، بل الأمر باجتنابها تعبدي، لا لأجل النجاسة، وإنما هو لمعنى لا نعرفه، كعدم معرفتنا لحكمة أعداد الصلوات ونحوها.
وقيل: بل النهي في هذه الأحاديث للكراهة فقط، وهي طاهرة مطهرة.
وجمع الشافعية بين الأحاديث بأن حديث "لا ينجسه شيءٌ" محمول على ما بلغ القلتين فما فوقهما وهو كثير، وحديث الاستيقاظ، وحديث الماء الدائم محمول على القليل.
وعند الهادوية: أن حديث الاستيقاظ محمول على الندب فلا يجب غسلهما له.
وقالت الحنفية: المراد بلا ينجسه شيء: الكثير الذي سبق تحديده. وقد أعلّوا حديث القلتين بالاضطراب، وكذلك أعله الإمام المهدي في البحر. وبعضهم تأوله، وبقية الأحاديث في القليل، ولكنه ورد عليهم حديث بول الأعرابي، فإنه كما عرفت دل على أنه لا يضر قليل النجاسة قليل الماء، فدفعته الشافعية: بالفرق بين ورود الماء على النجاسة، وورودها عليه فقالوا: إذا وردت على الماء نجسته، كما في حديث الاستيقاظ، وإذا ورد عليها الماء لا تضرّه، كما في خبر بول الأعرابي. وفيه بحث حققناه في حواشي شرح العمدة، وحواشي ضوء النهار.
وحاصله: أنهم حكموا: أنه إذا وردت النجاسة على الماء القليل نجسته، وإذا ورد عليها الماء القليل لم ينجس، فجعلوا علة عدم تنجس الماء الورود على النجاسة، وليس كذلك، بل التحقيق: أنه حين يرد الماء على النجاسة يرد عليها شيئاً فشيئاً حتى يفني عينها وتذهب قبل فنائه، فلا يأتي اخر من الماء الوارد على النجاسة إلا وقد طهر المحل الذي اتصلت به، أو بقي فيه جزء منها يفنى ويتلاشى، عند ملاقاة آخر جزء منها يرد عليه الماء، كما تفنى النجاسة وتتلاشى إذا وردت على الماء الكثير بالإجماع، فلا فرق بين هذا وبين الكثير في إفناء الكل للنجاسة، فإن الجزء الأخير الوارد على النجاسة يحيل عينها لكثرته بالنسبة إلى ما بقي من النجاسة، فالعلّة في عدم تنجسه بوروده عليها: هي كثرته بالنسبة إليها، لا الورود، فإنه لا يعقل التفرقة بين الورودين: بأنّ أحدهما ينجسه دون الاخر.
وإذا عرفت ما أسلفناه، وأنّ تحديد الكثير والقليل لم ينهض على أحدهما دليل. فأقرب الأقاويل بالنظر إلى الدليل: قول القاسم بن إبراهيم، ومَنْ معه، وهو قول جماعة من الصحابة، كما هو في البحر، وعليه عدة من أئمة الال المتأخرين، واختاره منهم الإمام شرف الدين.
وقال ابن دقيق العيد: إنه قول لأحمد، ونصره بعض المتأخرين من أتباعه، ورجّحه أيضاً من أتباع الشافعي: القاضي أبو الحسن الروياني، صاحب بحر المذهب قاله في الإمام. وقال ابن حزم في المحلى: إنه روي عن عائشة أم المؤمنين، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، والحسن بن علي بن أبي طالب، وميمونة أم المؤمنين، وأبي هريرة، وحذيفة بن اليمان، والأسود بن يزيد، وعبد الرحمن أخيه، وابن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، وابن المسيب، ومجاهد، وعكرمة، والقاسم بن محمد، والحسن البصري، وغير هؤلاء.
وعن أبي أُمَامَةَ الباهليّ ــــ رضي الله عنه ــــ قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ الماءَ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ إلَّا ما غلبَ على رِيحهِ وطَعْمِهِ ولَوْنِهِ" أخرجهُ ابنُ ماجهْ، وضعَّفَهُ أبو حاتم.
وللبيهقي: "الماءُ طَهُورٌ إلَّا إنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ، أو طَعْمُهُ، أوْ لَوْنُهُ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فيهِ".
(وعن أبي أمامة) بضم الهمزة، واسمه صدي بمهملتين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة ومثناة تحتية مشددة (الباهلي) بموحدة نسبة إلى باهلة، في القاموس: باهلة: قوم، واسم أبيه عجلان. قال ابن عبد البر: لم يختلفوا في ذلك، يعني في اسمه واسم أبيه. سكن أبو أمامة مصر، ثم انتقل عنها وسكن حمص، ومات بها سنة إحدى. وقيل: سنة ست وثمانين وقيل: هو اخر من مات من الصحابة بالشام. كان من المكثرين في الرواية عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ الماءَ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ إلا ما غَلَبَ على ريحهِ وطعمهِ ولونِهِ) المراد: أحدها كما يفسره حديث البيهقي (أخرجه ابن ماجه وضعفه أبو حاتم) قال الذهبي في حقه: أبو حاتم هو الرازي الإمام الحافظ الكبير، محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي، أحد الأعلام؛ ولد سنة خمس وتسعين ومائة، وأثنى عليه إلى أن قال: قال النسائي: ثقة. توفي أبو حاتم في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين، وله اثنتان وثمانون سنة. وإنما ضعّف الحديث، لأنه من رواية رشدين بن سعد بكسر الراء وسكون المعجمة، قال أبو يوسف: كان رشدين رجلاً صالحاً في دينه، فأدركته غفلة الصالحين، فخلط في الحديث، وهو متروك.
وحقيقة الحديث الضعيف: هو ما اختل فيه أحد شروط الصحيح، والحسن، وله ستة أسباب معروفة، سردها في الشرح.
[والبيهقي] هو: الحافظ العلامة شيخ خراسان، أبو بكر أحمد بن الحسين، له التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها: كان زاهداً ورعاً تقياً، ارتحل إلى الحجاز والعراق. قال الذهبي: تاليفه تقارب ألف جزء، وبيهق بموحدة مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وهاء مفتوحة فقاف: بلد قرب نيسابور، أي رواه بلفظ: (الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه) عطف عليه (بنجاسة) الباء سببية: أي بسبب نجاسة (تحدث فيه) قال المصنف: قال الدارقطني: ولا يثبت هذا الحديث. وقال الشافعي: ما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء، أو ريحه، أو كونه كان نجساً، يروى عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله. وقال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه، والمراد تضعيف رواية الاستثناء، لا أصل الحديث، فإنه قد ثبت في حديث بئر بضاعة، ولكن هذه الزيادة قد أجمع العلماء على القول بحكمها. قال ابن المنذر: قد أجمع العلماء: على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعماً، أو لوناً، أو ريحاً فهو نجس، فالإجماع هو الدليل على نجاسة ما تغير أحد أوصافه، لا هذه الزيادة.
وعن عبد الله بن عُمر رضي الله عنهمَا قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا كانَ الماءُ قُلّتين لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ" وفي لَفْظ: "لم يَنْجُسْ" أخرجه الأربعة، وصحّحهُ ابن خزَيْمَةَ والحاكِمُ وابنُ حِبّانَ.
(وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما) هو ابن عمر بن الخطاب أسلم عبد الله صغيراً بمكة، وأول مشاهده الخندق وعمّر: وروى عنه خلائق، كان من أوعية العلم، وكانت وفاته بمكة سنة ثلاث وسبعين، ودفن بها بذي طوى، في مقبرة المهاجرين.
(قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا كان المَاءُ قُلّتَيْن لم يَحْمل الخَبَثَ) بفتح المعجمة الموحدة، (وفي لفظ لم يَنْجُس) هو بفتح الجيم وضمها، كما في القاموس (أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة) تقدم ذكره في أوّل حديث.
(والحاكم) هو الإمام الكبير إمام المحققين، أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف بابن البيع، صاحب التصانيف. ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وطلب هذا الشأن، ورحل إلى العراق، وهو ابن عشرين، وحجّ، ثم جال في خراسان وما وراء النهر، وسمع من ألفي شيخ أو نحو ذلك، حدث عنه الدارقطني، وأبو يعلى الخليلي، والبيهقي، وخلائق. وله التصانيف الفائقة مع التقوى والديانة. ألف المستدرك، وتاريخ نيسابور، وغير ذلك. توفي في شهر صفر سنة خمس وأربعمائة.
(وابن حبّان) بكسر الحاء المهملة وتشديد الموحدة. قال الذهبي: هو الحافظ العلامة، أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان البستي، صاحب التصانيف. سمع أمماً لا يحصون من مصر إلى خراسان. حدّث عنه الحاكم، وغيره. وكان ابن حبان من فقهاء الدين وحفاظ الاثار، عالماً بالطب والنجوم وفنون العلم. صنف المسند الصحيح، والتاريخ، وكتاب الضعفاء. وفقّه الناس بسمرقند، قال الحاكم: كان ابن حبان من أوعية العلم والفقه واللغة والوعظ، من عقلاء الرجال. توفي في شوال سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وهو في عشر الثمانين.
وقد سبقت الإشارة إلى أن هذا الحديث هو: دليل الشافعية في جعلهم الكثير ما بلغ قلتين، وسبق اعتذار الهادوية والحنفية عن العمل به بالاضطراب في متنه. إذ في رواية: "إذا بلغ ثلاث قلال" وفي رواية: "قلة"، وبجهالة قدر القلة، وباحتمال معناه، فإن قوله: "لم يحمل الخبث" يحتمل أنه لا يقدر على حمله، بل يضره الخبث، ويحتمل أنه يتلاشى فيه الخبث، وقد أجاب الشافعية عن هذا كله، وقد بسطه في الشرح، إلا الأخير فلم يذكره، كأنه تركه لضعفه، لأن رواية "لم ينجس" صريحة في عدم احتماله المعنى الأول.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ" أخرجه مُسْلِمٌ.
وللبخاريِّ: "لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدَّائِمِ الذي لا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فيه".
ولِمُسْلِمٍ: "مِنْهُ".
ولأبي داوُدَ: "ولا يَغْتَسِلْ فيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ".
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: لا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدائم) وهو: الراكد الساكن، ويأتي وصفه بأنه الذي لا يجري (وَهُوَ جُنُبٌ أخرجه) بهذا اللفظ (مسلم. وللبخاري) رواية بلفظ (لا يبُولَنَّ أَحَدُكُمْ في الماء الدَّائم الذي لا يَجري ثُمَّ يَغْتَسَلُ) روي برفع اللام على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي ثم هو يغتسل، وقد جوّز جزمه على عطفه على موضع يبولن، ونصبه بتقدير أن على إلحاق ثم بالواو في ذلك، وإن أفاد أن النهي إنما هو عن الجمع بين البول والاغتسال، دون إفراد أحدهما، مع أنه ينهى عن البول فيه مطلقاً، فإنه لا يخل بجواز النصب؛ لأنه يستفاد من هذا النهي عن الجمع، ومن غيره النهي عن إفراد البول وإفراد الاغتسال. هذا بناء على أن ثم قد صارت بمعنى الواو تفيد الجمع، وهذا قاله النووي معترضاً به على ابن مالك؛ حيث جوز النصب، وأقره ابن دقيق العيد في غير شرح العمدة، إلا أنه أجاب عن النووي بما أفاده قولنا: فإنه لا يخل بجواز النصب إلى اخره.
قلت: والذي تقتضيه قواعد العربية أن النهي في الحديث إنما هو عن الجمع بين البول ثم الاغتسال منه، سواء رفعت اللام أو نصبت؛ وذلك لأن ثم تفيد ما تفيده الواو العاطفة في أنها للجمع، وإنما اختصت ثم بالترتيب، فالجميع واهمون فيما قرروه.
ولا يستفاد النهي عن كل واحد على انفراده من رواية البخاري؛ لأنها إنما تفيد النهي عن الجمع، ورواية مسلم تفيد النهي عن الاغتسال فقط إذا لم تقيد برواية البخاري. ثم رواية أبي داود بلفظ: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه" تفيد النهي عن كل واحد على انفراده (فيه. ولمسلم) في روايته (منه) بدلاً عن قوله فيه، والأولى تفيد أنه لا يغتسل فيه بالانغماس مثلاً، والثانية تفيد أن لا يتناول منه ويغتسل خارجه. (ولأبي داود) بلفظ: (ولا يغتسل فيه) عوضاً عن ثم يغتسل (من الجنابة) عوضاً عن قوله: وهو جنب، وقوله هنا: "ولا يغتسل" دال على أن النهي عن كل واحد من الأمرين على انفراده، كما هو أحد الاحتمالين الأولين في رواية "ثم يغتسل منه". قال في الشرح: وهذا النهي في الماء الكثير للكراهة. وفي الماء القليل للتحريم. قيل عليه: إنه يؤدي إلى استعمال لفظ النهي في حقيقته ومجازه، فالأحسن أن يكون من عموم المجاز، والنهي مستعمل في عدم الفعل الشامل للتحريم، وكراهة التنزيه.
فأما حكم الماء الراكد وتنجسه بالبول، أو منعه من التطهير بالاغتسال فيه للجنابة، فعند القائلين: ــــ بأنه لا ينجس إلا ما تغير أحد أوصافه ــــ النهي عنه للتعبد وهو طاهر في نفسه، وهذا عند المالكية فإنه يجوز التطهر به؛ لأن النهي عندهم للكراهة، وعند الظاهرية: أنه للتحريم. وإن كان النهي تعبداً، لا لأجل التنجيس لكن الأصل في النهي التحريم. وأما عند من فرق بين القليل والكثير فقالوا: إن كان الماء كثيراً ــــ وكل على أصله في حده ــــ ولم يتغير أحد أوصافه، فهو الطاهر. والدليل على طهوريته: تخصيص هذا العموم، إلا أنه قد يقال: إذا قلتم: النهي للكراهة في الكثير، فلا تخصيص لعموم حديث الباب، وإن كان الماء قليلاً ــــ وكل في حده على أصله ــــ فالنهي عنه للتحريم، إذ هو غير طاهر ولا مطهر، وهذا على أصلهم في كون النهي للنجاسة.
وذكر في الشرح الأقوال في البول في الماء وأنه لا يحرم في الكثير الجاري كما يقتضيه مفهوم هذا الحديث، والأولى اجتنابه. أما القليل الجاري فقيل يكره، وقيل: يحرم وهو الأولى. قلت: بل الأولى خلافه إذ الحديث في النهي عن البول فيما لا يجري، فلا يشمل الجاري قليلاً كان أم كثيراً. نعم، لو قيل بالكراهة لكان قريباً. وإن كان كثيراً راكداً فقيل: يكره مطلقاً، وقيل: إن كان قاصداً إلا إذا عرض وهو فيه فلا كرهة. قال في الشرح: ولو قيل بالتحريم لكان أظهر وأوفق؛ لظاهر النهي، لأن فيه إفساداً له على غيره ومضارة للمسلمين. وإن كان راكداً قليلاً فالصحيح: التحريم للحديث.
ثم هل يلحق غير البول كالغائط به في تحريم ذلك في هذا الماء القليل؟ فالجمهور على أنه يلحق به بالأولى. وعند أحمد بن حنبل: لا يلحق به غيره، بل يختص الحكم بالبول. وقوله: "في الماء" صريح في النهي عن البول فيه، وأنه يجتنب إذا كان كذلك. فإذا بال في إناء وصبه في الماء الدائم فالحكم واحد، وعن داود لا ينجسه ولا يكون منهياً عنه إلا في الصورة الأولى لا غير.
وحكم الوضوء في الماء الدائم الذي بال فيه من يريد الوضوء: حكم الغسل إذ الحكم واحد. وقد ورد في رواية: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه" ذكرها في الشرح ولم ينسبها إلى أحد، وقد أخرجها عبد الرزاق، وأحمد، وابن أبي شيبة، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وابن حبان من حديث أبي هريرة مرفوعاً، وأخرجه الطحاوي، وابن حبان، والبيهقي بزيادة: "أو يشرب".
وعن رَجُلٍ صَحِبَ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: نَهَى رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أنْ تَغْتَسِلَ المَرْأةُ بفَضْلِ الرَّجلِ، أوِ الرَّجُلُ بِفَضْلِ المرأةِ، ولْيَغْتَرِفَا جَميعاً" أخرجهُ أبو داودَ والنّسائيُّ، وإسْنَادُهُ صحيحٌ.
(وعن رجل صحب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل) أي بالماء الذي يفضل عن غسل الرجل (أو الرجل بفضل المرأة) مثله (وليغترفا) من الماء عند اغتسالهما منه (جميعاً أخرجه أبو داود، والنسائي، وإسناده صحيح) إشارة إلى رد قول البيهقي حيث قال: إنه في معنى المرسل، أو إلى قول ابن حزم حيث قال: إن أحد رواته ضعيف. أما الأول وهو كونه في معنى المرسل؛ فلأن إبهام الصحابي لا يضر؛ لأن الصحابة كلهم عدول عند المحدثين. وأما الثاني فلأنه أراد ابن حزم بالضعيف: داود بن عبد الله الأودي، وهو ثقة، وكأنه في البحر اغتر بقول ابن حزم، فقال بعد ذكر الحديث: إن راويه ضعيف وأسنده إلى مجهول. وقال المصنف في فتح الباري: إن رجاله ثقات ولم نقف له على علة، فلهذا قال هنا: وهو صحيح، نعم هو معارض بما يأتي من قوله في الحديث الاتي:
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها. أخرجه مسلمٌ.
ولأصحابِ السُّنن: اغْتَسَل بَعْضُ أَزْواجِ النبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في جَفْنَةٍ، فَجَاءَ لِيغْتَسِلَ مِنْها، فَقَالَتْ إنِّي كُنْتُ جُنُباً فقالَ: "إنَّ الماءَ لا يَجْنُبُ" وصححه الترمذي، وابنُ خُزَيْمَةَ.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما) هو حيث أطلق: بحر الأمة وحبرها عبد الله بن العباس. ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وشهرة إمامته في العلم ببركات الدعوة النبوية بالحكمة والفقه في الدين والتأويل تغني عن التعريف به. كانت وفاته بالطائف سنة ثمان وستين في اخر أيام ابن الزبير بعد أن كُفّ بصره (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يغتسل بفضل ميمونة. أخرجه مسلم) من رواية عمرو بن دينار بلفظ قال: وعلمي، والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني. الحديث. وأعله قوم بهذا التردد. ولكنه قد ثبت عند الشيخين بلفظ: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد"، ولا يخفى أنه لا تعارض؛ لأنه يحتمل أنهما كانا يغترفان معاً فلا تعارض.
نعم المعارض قوله: (ولأصحاب السنن) أي من حديث ابن عباس، كما أخرجه البيهقي في السنن، ونسبه إلى أبي داود: (اغتسل بعض أزواج النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في جفنة فجاء) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (ليغتسل منها فقالت) له: (إني كنت جنباً) أي وقد اغتسلت منها (فقال: إنَّ الماءَ لا يَجْنُبُ) في القاموس جنب أي كفرح وجنب أي ككرم، فيجوز فتح النون وضمها هنا، هذا إن جعلته من الثلاثي، ويصح من أجنب يجنب، وأما اجتنب فلم يأت بهذا المعنى وهو إصابة الجنابة (وصححه الترمذي. وابن خزيمة).
ومعنى الحديث قد ورد من طرق سردها في الشرح، وقد أفادت معارضة الحديث الماضي، وأنه يجوز غسل الرجل بفضل المرأة، ويقاس عليه العكس لمساواته له، وفي الأمرين خلاف، والأظهر جواز الأمرين، وأن النهي محمول على التنزيه.
[رح8]ــ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "طُهُورُ إناءِ أحدِكُمْ إذا وَلَغَ فيه الكَلْبُ أن يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولاهُنَّ بالتُّرابِ" أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وفي لَفظٍ لَهُ: "فَلْيُرِقْهُ".
وللترمذيِّ: "أُخْراهُنَّ، أوْ أُوْلاهُنَّ بالتراب".
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: طهورَ) قال في الشرح: الأظهر فيه ضم الطاء ويقال بفتحها لغتان (إناء أحدكم إذا وَلَغَ فيه الكلب) في القاموس: ولغ الكلب في الإناء وفي الشراب يلغ (كيهب) ويالغ وولغ كورث ووجل: شرب ما فيه بأطراف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه (أنْ يَغْسلَهُ) أي الإناء (سبعَ مَرَّات أوُلاهُنَّ بالتراب أخرجه مسلم، وفي لفظ له فليرقه) أي الماء الذي ولغ فيه، (وللترمذي أخراهن) أي السبع (أو أولاهن بالتراب).
دل الحديث على أحكام:
أولها: نجاسة فم الكلب من حيث الأمر بالغسل لما ولغ فيه، والإراقة للماء، وقوله: طهور إناء أحدكم؛ فإنه لا غسل إلا من حدث أو نجس، وليس هنا حدث فتعين النجس، والإراقة إضاعة ماله، فلو كان طاهراً لما أمر بإضاعته؛ إذ قد نهى عن إضاعة المال، وهو ظاهر في نجاسة فمه، وألحق به سائر بدنه قياساً عليه، وذلك لأنه إذا ثبت نجاسة لعابه، ولعابه جزء من فمه؛ إذ هو عرق فمه، ففمه نجس؛ إذ العرق جزء متحلب من البدن فكذلك بقية بدنه، إلا أن من قال: إن الأمر بالغسل ليس لنجاسة الكلب قال: يحتمل أنَّ النجاسة في فمه ولعابه؛ إذ هو محل استعماله للنجاسة بحسب الأغلب، وعلق الحكم بالنظر إلى غالب أحواله من أكله النجاسات بفمه ومباشرته لها، فلا يدل على نجاسة عينه، والقول بنجاسة عينه قول الجماهير، والخلاف لمالك وداود والزهري، وأدلة الأولين ما سمعت.
وأدلة غيرهم وهم القائلون: إن الأمر بالغسل للتعبد لا للنجاسة، أنه لو كان للنجاسة لاكتفى بما دون السبع، إذ نجاسته لا تزيد على العذرة. وأجيب عنه: بأن أصل الحكم الذي هو الأمر بالغسل معقول المعنى ممكن التعليل، أي بأنه للنجاسة. والأصل في الأحكام التعليل فيحمل على الأغلب، والتعبد إنما هو في العدد فقط. كذا في الشرح وهو مأخوذ من شرح العمدة وقد حققنا في حواشيه خلاف ما قرره من أغلبية تعليل الأحكام وطوَّلنا هنالك الكلام.
الحكم الثاني: أنه دل الحديث على وجوب سبع غسلات للإناء وهو واضح. ومن قال: لا تجب السبع بل ولوغ الكلب كغيره من النجاسات والتسبيع ندب، استدل على ذلك: بأن راوي الحديث وهو أبو هريرة قال: يغسل من ولوغه ثلاث مرات، كما أخرجه الطحاوي، والدارقطني. وأجيب عن هذا: بأن العمل بما رواه عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، لا بما رآه، وأفتى به، وبأنه معارض بما روى عنه أيضاً: أنه أفتى بالغسل سبعاً وهي أرجح سنداً، وترجح أيضاً بأنها توافق الرواية المرفوعة. وبما روى عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه قال في الكلب يلغ في الإناء: "يُغسلُ ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً" قالوا: فالحديث دل على عدم تعيين السبع وأنه مخير، ولا تخيير في معين، وأجيب عنه، بأنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة.
الحكم الثالث: وجوب التتريب للإناء لثبوته في الحديث، ثم الحديث يدل على تعيين التراب، وأنه في الغسلة الأولى. ومن أوجبه قال: لا فرق بين أن يخلط الماء بالتراب حتى يتكدر، أو يطرح الماء على التراب، أو يطرح التراب على الماء. وبعض من قال: بإيجاب التسبيع قال: لا تجب غسلة التراب لعدم ثبوتها عنده، ورد: بأنها قد ثبتت في الرواية الصحيحة بلا ريب، والزيادة من الثقة مقبولة.
وأورد على رواية التراب بأنها قد اضطربت فيها الرواية، فروى أولاهن، أو أخراهن، أو إحداهن، أو السابعة، أو الثامنة، والاضطراب قادح، فيجب الاطراح لها. وأجيب عنه: بأنه لا يكون الاضطراب قادحاً إلا مع استواء الروايات، وليس ذلك هنا كذلك؛ فإن رواية أولاهن أرجح لكثرة رواتها، وبإخراج الشيخين لها. وذلك من وجوه الترجيح عند التعارض. وألفاظ الروايات التي عورضت بها أولاهن لا تقاومها وبيان ذلك: أن رواية أخراهن منفردة لا توجد في شيء من كتب الحديث مسندة. ورواية السابعة بالتراب اختلف فيها، فلا تقاوم رواية أولاهن بالتراب، ورواية إحداهن بالحاء والدال المهملتين ليست في الأمهات، بل رواها البزار، فعلى صحتها، فهي مطلقة يجب حملها على المقيدة، ورواية أولاهن أو أخراهن بالتخيير، إن كان ذلك من الراوي فهو شك منه فيرجع إلى الترجيح، ورواية أولاهن أرجح، وإن كان كلامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فهو تخيير منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ويرجع إلى ترجيح أولاهن لثبوتها فقط عن الشيخين كما عرفت.
وقوله: "إناء أحدكم" الإضافة ملغاة هنا لأن حكم الطهارة والنجاسة لا يتوقف على ملكه الإناء، وكذا قوله: (فلْيغْسلْهُ) لا يتوقف على أن يكون مالك الإناء هو الغاسل.
وقوله: وفي لفظ "فليرقه" هي من ألفاظ رواية مسلم، وهي أمر بإراقة الماء الذي ولغ فيه الكلب أو الطعام، وهي من أقوى الأدلة على النجاسة، إذ المراق أعم من أن يكون ماءاً أو طعاماً، فلو كان طاهراً لم يأمر بإراقته كما عرفت. إلا أنه نقل المصنف في فتح الباري: عدم صحة هذه اللفظة عن الحفاظ. وقال ابن عبد البر: لم ينقلها أحد من الحفاظ من أصحاب الأعمش. وقال ابن منده: لا تعرف عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بوجه من الوجوه.
نعم. أهمل المصنف ذكر الغسلة الثامنة، وقد ثبت عند مسلم "وعفروه الثامنة بالتراب". قال ابن دقيق العيد: إنه قال بها الحسن البصري، ولم يقل بها غيره، ولعل المراد بذلك من المتقدمين. والحديث قوي فيها، ومن لم يقل به احتاج إلى تأويله بوجه فيه استكراه اهـ. قلت: والوجه أي المستكره في تأويله ذكره النووي فقال: المراد: اغسلوه سبعاً واحدة منهن بالتراب مع الماء، فكأن التراب قائم مقام غسلة فسميت ثامنة، ومثله قال الدميري في شرح المنهاج، وزاد: أنه أطلق الغسل على التعفير مجازاً.
قلت: لا يخفى أن إهمال المصنف لذكرها وتأويل من قال بإخراجها من الحقيقة إلى المجاز كل ذلك محاماة عن المذهب. والحق مع الحسن البصري.
هذا، وإن الأمر بقتل الكلاب ثم النهي عنه وذكر ما يباح اتخاذه منها يأتي الكلام عليه في باب الصيد إن شاء الله تعالى.
وعن أبي قَتَادَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَالَ ــــ في الهِرَّةِ ــــ: "إنّها ليْسَتْ بِنَجَسٍ، إنّمَا هي مِنْ الطَّوَّافين علَيْكُمْ" أخرجه الأربعة، وصحّحهُ الترمذي وابنُ خُزَيْمَةَ.
(وعن أبي قتادة رضي الله عنه) بفتح القاف فمثناة فوقية بعد الألف دال مهملة اسمه في أكثر الأقوال الحارث بن ربعي بكسر الراء فموحدة ساكنة فمهملة مكسورة ومثناة تحتية مشددة الأنصاري، فارس رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. شهد أحداً وما بعدها، وكانت وفاته سنة أربع وخمسين بالمدينة، وقيل مات بالكوفة في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وشهد معه حروبه كلها (أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال في الهرة).
والحديث له سبب، وهو: أن أبا قتادة سكب له وضوءاً فجاءت هرة تشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، فقيل له في ذلك. فقال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: (إنها ليست بنَجَس) أي فلا ينجس ما لامَسَتْهُ إنما هي من الطُّوَّافينَ) جمع طواف (عليكُمْ) قال ابن الأثير: الطائف الخادم الذي يخدمك برفق وعناية، والطواف فعال منه، شبهها بالخادم الذي يطوف على مولاه ويدور حوله أخذاً من قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَـلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وفي رواية مالك وأحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم. زيادة لفظ: "والطوافات" جمع الأول مذكراً سالماً نظراً إلى ذكور الهر. والثاني مؤنثاً سالماً نظراً إلى إناثها. فإن قلت: قد فات في جمع المذكر السالم شرط كونه يعقل وهو شرط لجمعه علماً وصفة. قلت: لما نزل منزلة من يعقل بوصفه بصفته وهو الخادم أجراه مجراه في جمعه صفة.
وفي التعليل إشارة إلى أنه تعالى لما جعلها بمنزلة الخادم في كثرة اتصالها بأهل المنزل وملابستها لهم، ولما في منزلهم، خفف الله تعالى على عباده بجعلها غير نجس رفعاً للحرج (أخرجه الأربعة، وصححه الترمذي وابن خزيمة) وصححه أيضاً البخاري والعقيلي والدارقطني.
والحديث دليل على طهارة الهرة وسؤرها، وإن باشرت نجساً، وأنه لا تقييد لطهارة فمها بزمان، وقيل: لا يطهر فمها إلا بمضي زمان من ليلة أو يوم أو ساعة، أو شربها الماء، أو غيبتها حتى يحصل ظن بذلك، أو بزوال عين النجاسة من فمها، وهذا الأخير أوضح الأقوال؛ لأنه مع بقاء عين النجاسة في فمها فالحكم بالنجاسة لتلك العين لا لفمها، فإن زالت العين فقد حكم الشارع بأنها ليست بنجس.
وعَنْ أنَسِ بن مالك رضي الله عنه، قال: جاء أعْرَابِيٌّ فَبَالَ في طَائِفَةِ المَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فَلَمَّا قضى بَوْلَهُ أمرَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بذَنُوبٍ مَنْ ماءٍ، فَأُهْرِيقَ عليْهِ مُتّفَقٌ علَيْهِ.
(وعن أنس بن مالك رضي الله عنه) هو أبو حمزة بالحاء المهملة والزاي الأنصاري النّجاري الخزرجي. خدم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم منذ قدم المدينة إلى وفاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقدم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المدينة وهو ابن عشر سنين، أو ثمان، أو تسع. أقوال. سكن البصرة من خلافة عمر ليفقه الناس وطال عمره إلى مائة وثلاث وستين، وقيل: أقل من ذلك. قال ابن عبد البر: أصح ما قيل تسع وتسعون سنة. وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة سنة إحدى أو اثنتين، أو ثلاث وتسعين.
(قال: جاء أعرابي) بفتح الهمزة نسبة إلى الأعراب وهم: سكان البادية سواء أكانوا عرباً أو عجماً. وقد ورد تسميته: أنه ذو الخويصرة اليماني وكان رجلاً جافياً (فبال في طائفة المسجد) أي في ناحيته، والطائفة: القطعة من الشيء (فزجره الناس) بالزاي فجيم فراء أي نهروه، وفي لفظ: "فقام إليه الناس ليقعوا به"، وفي أخرى: "فقال أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: مه، مه"، (فنهاهم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) بقوله لهم: "دعوه"، وفي لفظ: "لا تزْرُمُوه" (فلما قضى بوله أمر النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بذنوب) بفتح الذال المعجمة فنون آخره موحدة وهي الدلو الملان ماء، وقيل: العظيمة (من ماء) تأكيد، وإلا فقد أفاده لفظ الذنوب، فهو من باب كتبت بيدي، وفي رواية: "سجلا" بفتح السين المهملة وسكون الجيم، وهو بمعنى الذنوب (فأهريق عليه) أصله: فأريق عليه، ثم أبدلت الهاء من الهمزة فصار فهريق عليه، وهو رواية، ثم زيدت همزة أخرى بعد إبدال الأولى فقيل: فأهريق (متفق عليه) عند الشيخين كما عرفت.
والحديث فيه دلالة: على نجاسة بول الآدمي، وهو إجماع، وعلى أن الأرض إذا تنجست طهرت بالماء كسائر المتنجسات، وهل يجزىء في طهارتها غير الماء؟ قيل: تطهرها الشمس والريح؛ فإن تأثيرهما في إزالة النجاسة أعظم إزالة من الماء، ولحديث: "زكاةُ الأرض يُبْسُهَا"، ذكره ابن أبي شيبة. وأجيب: بأنه ذكره موقوفاً، وليس من كلامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كما ذكر عبد الرزاق: حديث أبي قلابة موقوفاً عليه بلفظ: "جُفوفُ الأرض طَهُورُها" فلا تقوم بهما حجة.
والحديث ظاهر في أن صب الماء يطهر الأرض رخوة كانت أو صلبة، وقيل: لا بد من غسل الصلبة كغيرها من المتنجسات، وأرض مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كانت رخوة، فكفى فيها الصب.
وكذلك الحديث ظاهر في أنه لا تتوقف الطهارة على نضوب الماء؛ لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يشترط في الصب على بول الأعرابي شيئاً، وهو الذي اختاره المهدي في البحر، وفي أنه لا يشترط حفرها وإلقاء التراب، وقيل: إذا كانت صلبة فلا بد من حفرها وإلقاء التراب؛ لأن الماء لم يعم أعلاها وأسفلها، ولأنه ورد في بعض طرق الحديث: أنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خذوا ما بال عليه من التُّراب وألقُوهُ وأهْرِيقوا على مكانه ماء". قال المصنف في التلخيص: له إسنادان موصولان. أحدهما عن ابن مسعود، والاخر عن واثلة بن الأسقع، وفيهما مقال: ولو ثبتت هذه الزيادة لبطل قول من قال: إن أرض مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رخوة، فإنه يقول: لا يحفر ويلقى التراب إلا من الأرض الصلبة.
وفي الحديث فوائد:
منها: احترام المساجد؛ فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما فرغ الأعرابي من بوله دعاه ثم قال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البَوْل ولا القَذر إنما هي لذكْر الله عزَّ وجلَّ وقراءة القران". ولأن الصحابة لما تبادروا إلى الإنكار أقرهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وإنما أمرهم بالرفق، كما في رواية الجماعة للحديث إلا مسلماً أنه قال: "إنما بُعثْتُم ميسرين ولم تُبْعَثوا مُعَسّرين". ولو كان الإنكار غير جائز لقال إنه لم يأت الأعرابي ما يوجب نهيكم له.
ومنها: الرفق بالجاهل وعدم التعنيف، ومنها حسن خلقه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولطفه بالمتعلم، ومنها أن الإبعاد عند قضاء الحاجة إنما هو لمن يريد الغائط لا البول؛ فإنه كان عُرْفُ العرب عدم ذلك وأقره الشارع، وقد بال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وجعل رجلاً عند عقبه يستره، ومنها دفع أعظم المضرتين بأخفهما؛ لأنه لو قطع عليه بوله لأضر به، وكان يحصل من تقويمه من محله، مع ما قد حصل من تنجيس المسجد، تنجيس بدنه وثيابه ومواضع من المسجد غير الذي قد وقع فيه البول أولاً.
[رح11]ـــ وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهُمَا قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أُحِلّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ. فأمّا المَيْتَتَانِ: فالجَرَادُ والحُوتُ، وأمّا الدَّمَانِ: فالكَبِدُ والطحَالُ" أخرجه أحمد، وابنُ ماجَهْ، وفيه ضعف.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أحلّتْ لَنا مَيْتَتَان) أي بعد تحريمهما الذي دلت عليه الآيات (ودمان) كذلك (فأمّا المَيْتَتان فالجرادُ) أي ميتة (والحوتُ) أي ميتة (وأما الدّمان. فالكبدُ والطِّحالُ) بزنة كتاب (أخرجه أحمد وابن ماجه وفيه ضعف) لأنه رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر. قال أحمد: حديثه منكر، وصح أنه موقوف كما قال أبو زرعة وأبو حاتم، وإذا ثبت أنه موقوف فله حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: أحل لنا كذا وحرم علينا كذا مثل قوله: أمرنا ونهينا، فيتم به الاحتجاج. ويدل على حل ميتة الجراد على أي حال وجدت، فلا يعتبر في الجراد شيء سواء مات حتف أنفه أو بسبب.
والحديث حجة على من اشترط موتها بسبب عادي، أو بقطع رأسها، وإلا حرمت. وكذلك يدل على حل ميتة الحوت على أي صفة وجد، طافياً كان أو غيره لهذا الحديث، وحديث "الحلُّ مَيْتَتُهُ". وقيل: لا يحل منه إلا ما كان موته بسبب ادمي، أو جزر الماء، أو قذفه، أو نضوبه، ولا يحل الطافي لحديث: "ما ألقاه البحرُ أو جزَرَ عَنْهُ فكُلُوا. وما مات فيه فطَفَا فلا تأكُلُوهُ" أخرجه أحمد وأبو داود من حديث جابر، وهو خاص فيخص به عموم الحديثين. وأجيب عنه: بأنه حديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث.
قال النووي: حديث جابر لا يجوز الاحتجاج به لو لم يعارضه شيء كيف وهو معارض اهـ. فلا يخص به العام، ولأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أكل من العنبرة التي قذفها البحر لأصحاب السرية، ولم يسأل بأي سبب كان موتها، كما هو معروف في كتب الحديث والسيرة.
والكبد حلال بالإجماع، وكذلك مثلها الطحال فإنه حلال، إلا أنه في البحر قال: يكره لحديث علي رضي الله عنه: "إنه لقمه الشيطان" أي إنه يسر بأكله، إلا أنه حديث لا يعرف من أخرجه.
وعن أبي هريرة قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا وقَعَ الذُّبَابُ في شرَابِ أحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثمَّ ليَنْزِعْهُ، فإنَّ في أحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً، وفي الاخَرِ شِفَاءً" أخرَجَهُ البخاريُّ وأبو داود، وزادَ: "وإنّهُ يَتَّقِي بجَنَاحِهِ الذي فيهِ الدَّاءُ".
(وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا وقَعَ الذُّبَابُ في شراب أحدكم") وهو كما أسلفناه من أن الإضافة ملغاة كما في قوله: "إذا ولغَ الكلبُ في إناء أحدكُم" وفي لفظ "في طعام أحدكُم" (فَلْيَغْمسْهُ) زاد في رواية البخاري "كلَّهُ) ، تأكيداً. وفي لفظ أبي داود "فامْقُلوه"، وفي لفظ ابن السكن "فليمقله" (ثمَّ لينْزِعْهُ) فيه: أنه يمهل في نزعه بعد غمسه (فإنَّ في أحد جناحَيْهِ داءً وفي الاخر شفاءً) هذا تعليل للأمر بغمسه. وفي لفظ البخاري "ثم ليطرحه فإن في أحد جنايه شفاء وفي الاخر داء"، وفي لفظ "سما" (أخرجه البخاري وأبو داود. وزاد: وإنّهُ يَتّقِي بجناحهِ الذي فيه الداء). وعند أحمد وابن ماجه: أنه يقدم السم ويؤخر الشفاء.
والحديث دليل ظاهر على جواز قتله دفعاً لضرره، وأنه يطرح ولا يؤكل، وأن الذباب إذا مات في مائع فإنه لا ينجسه؛ لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر بغمسه، ومعلوم أنه يموت من ذلك، ولاسيما إذا كان الطعام حاراً، فلو كان ينجسه لكان أمراً بإفساد الطعام، وهو صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إنما أمر بإصلاحه. ثم عدى هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنحلة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك؛ إذ الحكم يعم بعموم علته، وينتفي بانتفاء سببه، فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقوداً فيما لا دم له سائل، انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته، والأمر بغمسه ليخرج الشفاء منه كما خرج الداء منه.
وقد علم أن في الذباب قوة سمية كما يدل عليها الورم والحكة الحاصلة من لسعه وهي بمنزلة السلاح، فإذا وقع فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه، كما قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء" أمر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن تقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه وتعالى فيه من الشفاء في جناحه الآخر بغمسه كله. فتقابل المادة السمية المادة النافعة فيزول ضررها، وقد ذكر غير واحد من الأطباء: أن لسعة العقرب والزنبور إذا دلك موضعها بالذباب نفع منه نفعاً بيناً ويسكنها، وما ذلك إلا للمادة التي فيه من الشفاء.
وعن أبي واقد الليْثيِّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهيمَة ــــ وهيَ حَيّةٌ ــــ فهُوَ مَيِّتٌ". أَخْرَجَهُ أَبو داودَ والتِّرْمِذيُّ، وحَسّنَهُ، واللفظُ لَهُ.
(وعن أبي واقد) بقاف مكسورة ودال مهملة اسمه الحارث بن عوف من أقوال. قيل: إنه شهد بدراً، وقيل: إنه من مسلمة الفتح، والأول أصح. مات سنة ثمان أو خمس وستين بمكة (الليثي) بمثناة تحتية نسبة إلى ليث لأنه من بني عامر بن ليث (رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: ما قُطعَ من البهيمة) في القاموس: البهيمة: كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، وكل حي لا يميز. والبهيمة أولاد الضأن والمعز، ولعل المراد هنا الأخير أو الأول لما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى (وهي حيّةٌ فَهُوَ) أي المقطوع (ميت أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه واللفظ له) ، أي قال: إنه حسن، وقد عرف معنى الحسن في تعريف الصحيح فيما سلف واللفظ للترمذي.
والحديث قد روي من أربع طرق عن أربعة من الصحابة: عن أبي سعيد، وأبي واقد، وابن عمر، وتميم الداري. وحديث أبي واقد هذا رواه أيضاً أحمد والحاكم بلفظ: قدم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المدينة، وبها ناس يعمدون إلى أليات الغنم وأسنمة الإبل فقال: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت".
والحديث دليل على أن ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت.
وسبب الحديث دال على أنه أريد بالبهيمة ذات الأربع وهو المعنى الأول لذكره الإبل فيه، لا المعنى الأخير الذي ذكره القاموس، لكنه مخصوص بما أبين من السمك ولو كانت ذات أربع، أو يراد به المعنى الأوسط وهو كل حي لا يميز، فيخص منه الجراد، والسمك، وما أبين مما لا دم له. وقد أفاد قوله "فهو ميت" أنه لا بد أن يحل المقطوع الحياة، لأن الميت هو ما من شأنه أن يكون حياً.
باب الآنية
الآنية جمع إناء وهو معروف؛ وإنما بوب لها، لأنّ الشارع قد نهى عن بعضها، فقد تعلّقت بها أحكام.
عن حُذَيْفَةَ بن الْيَمَانِ رضي الله عنهما قال: قال رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تَشْرَبُوا في انيةِ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ، ولا تأكُلُوا في صِحَافِهِمَا، فإنها لَهُمْ في الدُّنْيَا، وَلَكُمْ في الآخِرَةِ"، متفق عليه.
(عن حذيفة) أي: أروي، أو أذكر، كما سلف، وحذيفة بضم الحاء المهملة فذال معجمة فمثناة تحتية ساكنة ففاء، هو أبو عبد الله حذيفة (بن اليمان) بفتح المثناة التحتية وتخفيف الميم اخره نون، وحذيفة وأبوه صحابيان جليلان شهدا أحداً، وحذيفة صاحب سرّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وروى عنه جماعة من الصحابة، والتابعين. ومات بالمدائن سنة خمس، أو ست وثلاثين بعد قتل عثمان بأربعين ليلة (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: لا تشربوا في انية الذَّهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما) جمع صحفة. قال الكشاف والكسائي: الصحفة هي ما تشبع الخمسة (فإنها) أي انية الذهب والفضة وصحافهما (لهم) أي: للمشركين، وإن لم يذكروا فهم معلومون (في الدنيا) إخبار عما هم عليه، لا إخبار بحلها لهم، (ولكم في الاخرة، متفق عليه) بين الشيخين.
والحديث دليل على تحريم الأكل والشرب في انية الذهب والفضة، وصحافهما، سواء كان الإناء خالصاً ذهباً أو مخلوطاً بالفضة، إذ هو بما يشمله أنه إناء ذهب وفضة. قال النووي: إنه انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب فيهما.
واختلف في العلة:
فقيل: للخيلاء.
وقيل: بل لكونه ذهباً وفضة.
واختلفوا في الإناء المطلي بهما: هل يلحق بهما في التحريم، أم لا؟
فقيل: إن كان يمكن فصلهما حرم إجماعاً؛ لأنه مستعمل للذهب والفضة، وإن كان لا يمكن فصلهما لا يحرم. وأما الإناء المضبب بهما، فإنه يجوز الأكل والشرب فيه إجماعاً.
وهذا في الأكل والشرب فيما ذكر لا خلاف فيه، فأما غيرهما من سائر الاستعمالات، ففيه الخلاف:
قيل: لا يحرم: لأن النص لم يرد إلا في الأكل والشرب. وقيل: يحرم سائر الاستعمالات إجماعاً.
ونازع في الأخير بعض المتأخرين وقال: النص ورد في الأكل والشرب لا غير، وإلحاق سائر الاستعمالات بها قياساً لا تتم فيه شرائط القياس.
والحقّ ما ذهب إليه القائل: بعدم تحريم غير الأكل والشرب فيهما؛ إذ هو الثابت بالنص، ودعوى الإجماع غير صحيحة، وهذا من شؤم تبديل اللفظ النبوي بغيره؛ فإنه ورد بتحريم الأكل والشرب فقط، فعدلوا عن عبارته إلى الاستعمال، وهجروا العبارة النبوية، وجاءوا بلفظ عام من تلقاء أنفسهم، ولها نظائر في عباراتهم. ولهذا ذكر المصنف هذا الحديث هنا؛ لإفادة تحريم الوضوء في انية الذهب والفضة؛ لأنه استعمال لهما على مذهبه في تحريم ذلك، وإلاّ فباب هذا الحديث باب الأطعمة والأشربة.
ثم هل يلحق بالذهب والفضة نفائس الأحجار كالياقوت والجواهر؟ فيه خلاف، والأظهر عدم إلحاقه، وجوازه على أصل الإباحة؛ لعدم الدليل الناقل عنها.
وَعَنْ أُمّ سَلَمَةَ رَضيَ الله عنها، قالَتْ: قَالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الّذي يَشْرَبُ في إناءِ الْفِضَّةِ إنّمَا يُجَرْجِرُ في بَطْنِهِ نَارَ جَهَنّم" مُتّفَقٌ علَيْهِ.
(وعن أم سلمة رضي الله عنها) هي أم المؤمنين زوج النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، اسمها هند بنت أبي أمية، كانت تحت أبي سلمة بن عبد الأسد، هاجرت إلى أرض الحبشة مع زوجها، وتوفي عنها في المدينة بعد عودتهما من الحبشة، وتزوجها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في المدينة سنة أربع من الهجرة، وتوفيت سنة تسع وخمسين، وقيل: اثنتين وستين، ودفنت بالبقيع، وعمرها أربع وثمانون سنة (قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: الذي يشربُ في إناء الفضَّة) هكذا عند الشيخين. وانفرد مسلم في رواية أخرى بقوله: "في إناء الفضة والذهب" (إنما يجرجر) بضم المثناة التحتية وجيم فراء وجيم مكسورة. والجرجرة: صوت وقوع الماء في الجوف، وصوت البعير عند الجرة، وجعل الشرب والجرع جرجرة (في بطنه نار جهنم. متفق عليه) بين الشيخين.
قال الزمخشري: يروى برفع النار أي: على أنها فاعل مجازاً، وإلاّ فنار جهنم على الحقيقة لا تجرجر في بطنه، إنما جعل جرع الإنسان للماء في هذه الأواني المنهي عنها، واستحقاق العقاب على استعمالها: كجرجرة نار جهنم في جوفه مجازاً، هكذا على رواية الرفع. وذكر الفعل يعني يجرجر وإن كان فاعله النار وهي مؤنثة للفصل بينها وبين فعلها، ولأنّ تأنيثها غير حقيقي، والأكثر على نصب جهنم، وفاعل الجرجرة هو الشارب والنار مفعوله، والمعنى: كأنما يجرع نار جهنم من باب: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}. قال النووي: والنصب هو الصحيح المشهور الذي عليه الشارحون وأهل العرف واللغة، وجزم به الأزهري. وجهنم عجمية لا تنصرف للتأنيث والعلمية؛ إذ هي علم لطبقة من طبقات النار، أعاذنا الله منها، سميت بذلك لبعد قعرها، وقيل: لغلظ أمرها في العذاب.
والحديث يدل على ما دل عليه حديث حذيفة الأول.
وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِي الله عنهُمَا، قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا دُبِغَ الإهَابُ فقدَ طَهُرَ" أخرجهُ مسلم.
وعند الأربعة "أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ".
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: (إذا دبغَ الإهابُ) بزنة كتاب هو الجلد، أو ما لم يدبغ كما في القاموس، ومثله في النهاية (فقد طهر) بفتح الطاء والهاء ويجوز ضمها كما يفيده القاموس (أخرجه مسلم) بهذا اللفظ (وعند الأربعة) وهم أهل السنن: (أيُّما إهابٍ دُبغ) تمامه "فقد طهر".
والحديث أخرجه الخمسة، إنما اختلف لفظه، وقد روى بألفاظ، وذكر له سبب، وهو: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مر بشاة ميتة لميمونة فقال: "ألا استمتعتُم بإهابها فإنَّ دباغ الأديم طَهورٌ"، وروى البخاري: من حديث سودة قالت: "ماتت لَنَا شاةٌ فدبغنا مَسْكَها ثُمَّ ما زلنا ننْتبذُ فيه حتى صار شَناً".
والحديث دليل على أنّ الدباغ، مطهر لجلد ميتة كلّ حيوان، كما يفيده عموم كلمة "أيما"، وأنه يطهر باطنه وظاهره.
وفي المسألة سبعة أقوال:
الأول: أنّ الدباغ يطهر جلد الميتة باطنه وظاهره، ولا يخص منه شيء، عملاً بظاهر حديث ابن عباس وما في معناه. وهذا مروي عن علي عليه السلام، وابن مسعود.
والثاني من الأقوال: أنه لا يطهر الدباغ شيئاً، وهو مذهب جماهير الهادوية، ويروى عن جماعة من الصحابة مستدلين بحديث الشافعي الذي أخرجه أحمد، والبخاري في تاريخه، والأربعة، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان: عن عبد الله بن عكيم قال: "أتانا كتاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قبل موته: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" وفي رواية الشافعي وأحمد وأبي داود: قبل موته بشهر، وفي رواية: بشهر، أو شهرين. قال الترمذي: حسن. وكان أحمد يذهب إليه ويقول: هذا آخر الأمرين، ثم تركه، قالوا ــــ أي: الهادوية: وهذا الحديث ناسخ لحديث ابن عباس لدلالته على تحريم الانتفاع من الميتة بإهابها وعصبها.
وأجيب عنه بأجوبة.
الأول: أنه حديث مضطرب في سنده، فإنه روى تارة عن كتاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وتارة عن مشايخ من جهينة عمن قرأ كتاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. ومضطرب أيضاً في متنه، فروى من غير تقييد في رواية الأكثر، وروى بالتقييد بشهر، أو شهرين، أو أربعين يوماً، أو ثلاثة أيام، ثم إنه معلّ أيضاً بالإرسال؛ فإنه لم يسمعه عبد الله بن عكيم منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ومعلّ بالانقطاع؛ لأنه لم يسمعه عبد الرحمن بن أبي ليلى من ابن عكيم، ولذلك ترك أحمد بن حنبل القول به آخراً، وكان يذهب إليه أولاً، كما قال عنه الترمذي.
وثانياً: بأنه لا يقوى على النسخ؛ لأن حديث الدباغ أصح؛ فإنه مما اتفق عليه الشيخان. وأخرج مسلم، وروى من طرق متعددة في معناه عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة، فعن ابن عباس حديثان، وعن أم سلمة ثلاثة، وعن أنس حديثان، وعن سلمة بن المحبق، وعائشة، والمغيرة، وأبي أمامة، وابن مسعود. ولأن الناسخ لا بد من تحقيق تأخره، ولا دليل على تأخر حديث ابن عكيم، ورواية التاريخ فيه بشهر أو شهرين معلة، فلا تقوم بها حجة على النسخ. على أنها لو كانت رواية التاريخ صحيحة، ما دلت على أنه آخر الأمرين جزماً.
ولا يقال: فإذا لم يتم النسخ تعارض الحديثان، حديث عبد الله بن عكيم وحديث ابن عباس ومن معه، ومع التعارض يرجع إلى الترجيح أو الوقف؛ لأنا نقول: لا تعارض إلا مع الاستواء وهو مفقود، كما عرفت من صحة حديث ابن عباس، وكثرة من معه من الرواة، وعدم ذلك في حديث ابن عكيم.
وثالثاً: بأن الإهاب كما عرفت عن القاموس والنهاية: اسم لما لم يدبغ في أحد القولين. وقال النضر بن شميل: ــــ الإهاب لما لم يدبغ، وبعد الدبغ يقال له: شن وقربة، وبه جزم الجوهري قيل: فلما احتمل الأمرين، وورد الحديثان في صورة المتعارضين، جمعنا بينهما: بأنه نهى عن الانتفاع بالإهاب ما لم يدبغ، فإذا دبغ لم يسم إهاباً، فلا يدخل تحت النهي، وهو حسن.
الثالث: يطهر جلد ميتة المأكول لا غيره، لكن يرده عموم "أيما إهاب".
الرابع: يطهر الجميع إلاّ الخنزير؛ فإنه لا جلد له وهو مذهب أبي حنيفة.
الخامس: يطهر إلاّ الخنزير لكن، لا لكونه لا جلد له، بل لكونه رجساً لقوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والضمير للخنزير، فقد حكم برجسيته كله، والكلب مقيس عليه بجامع النجاسة، وهو قول الشافعي.
السادس: يطهر الجميع، لكن ظاهره دون باطنه، فيستعمل في اليابسات دون المائعات، ويصلى عليه ولا يصلى فيه، وهو مروي عن مالك جمعاً منه بين الأحاديث لما تعارضت.
السابع: ينتفع بجلود الميتة، وإن لم تدبغ ظاهراً وباطناً؛ لما أخرجه البخاري من رواية ابن عباس أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مر بشاة ميتة، فقال: "هلا انتفعتم بإهابه؟ قالوا: إنها ميتة، قال: إنما حرم أكلها" وهو رأي الزهري. وأجيب عنه: بأنه مطلق قيدته أحاديث الدباغ التي سلفت.
وَعَنْ سَلَمَةَ بن الْمُحَبِّقِ رضي الله عَنْهُ، قَالَ: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "دِباغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طُهُورُهَا"، صححهُ ابنُ حِبّان.
(وعن سلمةَ بن المحبِّق رضي الله عنه) هو بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة المكسورة والقاف. وسلمة صحابي يعد في البصريين، روى عنه ابنه سنان. ولسنان أيضاً صحبة (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "دباغ جُلود الميتة طهورها" صححه ابن حبان) أي أخرجه وصححه، وقد أخرج غير ابن حبان هذا الحديث، لكن بألفاظ: عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، والبيهقي عن سلمة بلفظ: "دباغ الأديم: ذكاته"، وفي لفظ: "دباغها، ذكاتها"، وفي اخر: "دباغها: طهورها" وفي لفظ: "ذكاتها: دباغها"، وفي لفظ اخر: "ذكاة الأديم: دباغه". وفي الباب أحاديث بمعناه، وهو يدلّ على ما دلّ عليه حديث ابن عباس. وفي تشبيه الدباغ بالذكاة: إعلام بأنّ الدباغ في التطهير بمنزلة تذكية الشاة في الإحلال؛ لأن الذبح يطهرها ويحل أكلها.
وعن ميْمُونَةَ رضي الله عنها، قالتْ: مَرَّ النَّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بشاةٍ يجرُّونَها، فقال: "لَوْ أَخَذْتُمْ إهَابَهَا؟" فقالوا: إنّها مَيْتَةٌ، فقالَ: "يُطَهِّرُهَا الماءُ والْقَرَظُ" أخْرَجَهُ أبو داود والنّسائيُّ.
(وعن ميمونة رضي الله عنه) هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية، كان اسمها برة، فسماها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ميمونة، تزوجها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في شهر ذي القعدة سنة سبع في عمرة القضية، وكانت وفاتها سنة إحدى وستين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: ست وستين، وقيل: غير ذلك، وهي خالة ابن عباس، ولم يتزوج صلى الله تعالى عليه واله وسلم بعدها (قالت: مر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بشاة يجرُّونها فقال: لو أخذْتُم إهَابَهَا؟ فقالوا: إنها ميتةٌ، فقال: يُطهرها الماءُ والقَرَظُ" أخرجه أبو داود والنسائي) ، وفي لفظ عند الدارقطني عن ابن عباس: "أليس في الماء والقرظ ما يطهرها"، وأما رواية: "أليس في الشث والقرظ ما يطهرها"، فقال النووي: إنه بهذا اللفظ باطل لا أصل له. وقال في شرح مسلم: يجوز الدباغ بكل شيء ينشف فضلات الجلد ويطيبه، ويمنع من ورود الفساد عليه، كالشث، والقرظ، وقشور الرمان، وغير ذلك من الأدوية الطاهرة، ولا يحصل بالشمس إلا عند الحنفية، ولا بالتراب، والرماد، والملح على الأصح.
وعن أبي ثَعْلَبَةَ الخُشْنِيِّ رضي الله عنه، قال: قُلْتُ: يا رَسولَ الله، إنّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، أَفَنَأْكُلُ في انيَتِهمْ؟ قالَ: "لا تأكلُوا فيهَا، إلا أنْ لا تَجِدُوا غَيْرَها، فَاغْسِلُوهَا، وَكُلُوا فيها" متفق عَلَيْه.
(وعن أبي ثعلبة) بفتح المثلثة بعدها عين مهملة ساكنة فلام مفتوحة فموحدة (الخشني رضي الله عنه) بضم الخاء المعجمة فشين معجمة مفتوحة فنون، نسبة إلى خشين بن النمر من قضاعة حذفت ياؤه عند النسبة، واسمه جرهم بضم الجيم بعدها راء ساكنة فهاء مضمومة، ابن ناشب بالنون وبعد الألف شين معجمة اخره موحدة، اشتهر بلقبه، بايع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بيعة الرضوان، وضرب له بسهم يوم خيبر، وأرسله إلى قومه فأسلموا، نزل بالشام ومات بها سنة خمس وسبعين، وقيل: غير ذلك (قال: قلت: يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في انيتهم؟ قال: "لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها". متفق عليه) بين الشيخين.
استدل به على نجاسة انية أهل الكتاب، وهل هو لنجاسة رطوبتهم، أو لجواز أكلهم الخنزير، وشربهم الخمر، أو للكراهة؟
ذهب إلى الأول القائلون بنجاسة رطوبة الكفار، وهم الهادوية، والقاسمية. واستدلوا أيضاً بظاهر قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} والكتابي يسمى مشركاً؛ إذ قالوا: المسيح ابن الله، وعزير ابن الله.
وذهب غيرهم من أهل البيت كالمؤيد بالله وغيره، وكذلك الشافعي: إلى طهارة رطوبتهم، وهو الحق؛ لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ولأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ من مزادة مشركة، ولحديث جابر عند أحمد، وأبي داود "كنا نغزو مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فنصيب من انية المشركين وأسقيتهم، ولا يعيب ذلك علينا".
قلنا: في غيره من الأدلة غنية عنه. فمنها ما أخرجه أحمد من حديث أنس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دعاه يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأكل منها" بفتح السين وسكون النون المعجمة فخاء مفتوحة أي متغيرة.
قال في البحر: لو حرمت رطوبتهم لاستفاض بين الصحابة نقل توقيهم لها لقلة المسلمين حينئذ، مع كثرة استعمالاتهم التي لا يخلو منها ملبوس ومطعوم، والعادة في مثل ذلك تقضي بالاستفاضة. قال: وحديث أبي ثعلبة: إما محمول على كراهة الأكل في انيتهم للاستقذار، لا لكونها نجسة؛ إذ لو كانت نجسة لم يجعله مشروطاً بعدم وجدان غيرها، إذ الإناء المتنجس بعد إزالة نجاسته هو وما لم يتنجس على سواء، أو لسد ذريعة المحرم، أو لأنها نجسة لما يطبخ فيها، لا لرطوبتهم كما تفيده رواية أبي داود وأحمد بلفظ: "إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في انيتهم الخمر، فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن وجدتم غيرها" الحديث، وحديثه الأول مطلق، وهذا مقيد بانية يطبخ فيها ما ذكر ويشرب، فيحمل المطلق على المقيد.
وأما الآية: فالنجس لغة المستقذر، فهو أعم من المعنى الشرعي، وقيل: معناه ذو نجس؛ لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون، ولا يغتسلون، ولا يتجنبون النجاسات فهي ملابسة لهم، وبهذا يتم الجمع بين هذا، وبين اية المائدة، والأحاديث الموافقة لحكمها، واية المائدة أصرح في المراد.
وعن عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهُ: أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأصحابه توضَّئوا من مزادةِ امرأةٍ مشركةٍ. متفق عليه. في حديث طويلٍ.
(وعن عمران بن حصين) بالمهملتين تصغير حصن، وعمران هو أبو نجيد بالجيم تصغير نجد الخزاعي الكعبي، أسلم عام خيبر، وسكن البصرة إلى أن مات بها سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين، وكان من فضلاء الصحابة، وفقهائهم (رضي الله عنه: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأصحابه توضئوا من مزادة) بفتح الميم بعدها زاي ثم ألف وبعد الألف مهملة وهي الراوية، ولا تكون إلا من جلدتين تقام بثالث بينهما لتتسع، كما في القاموس (امرأة مشركة. متفق عليه) بين الشيخين (في حديث طويل) أخرجه البخاري بألفاظ فيها: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعث علياً، واخر معه في بعض أسفاره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقد فقدوا الماء"، فقال: "اذهبا فابتغيا الماء. فانطلقا، فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها. فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، قالا: انطلقي إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى أن قال: ودعا النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بإناء، ففرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين، ونودي في الناس اسقوا، واستسقوا، فسقى من سقى، واستقى من شاء" الحديث، وفيه زيادة ومعجزات نبوية.
والمراد أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ من مزادة المشركة، وهو دليل لما سلف في شرح حديث أبي ثعلبة من طهارة انية المشركين، ويدل أيضاً على طهور جلد الميتة بالدباغ؛ لأن المزادتين من جلود ذبائح المشركين وذبائحهم ميتة، ويدل على طهارة رطوبة المشرك؛ فإن المرأة المشركة قد باشرت الماء وهو دون القلتين؛ فإنهم صرحوا بأنه لا يحمل الجمل قدر القلتين. ومن يقول: إن رطوبتهم نجسة، ويقول: لا ينجس الماء إلا ما غيره، فالحديث يدل على ذلك.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ قَدَحَ النبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم انْكَسَرَ، فاتّخَذَ مَكَانَ الشّعْبِ سَلْسَلَةً مِنْ فِضَّةٍ. أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.
(وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن قدح النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم انكسر، فاتخذ مكان الشعب) بفتح الشين المعجمة وسكون المهملة لفظ مشترك بين معان. والمراد منها هنا: الصدع والشق (سلسلة من فضة) في القاموس سلسلة بفتح أوله وسكون اللام وفتح السين الثانية منها: إيصال الشيء بالشيء، أو سلسلة بكسر أوله: دائر من حديد ونحوه، والظاهر أن المراد الأول، فيقرأ بفتح أوله (أخرجه البخاري).
وهو دليل على جواز تضبيب الإناء بالفضة، ولا خلاف في جوازه كما سلف. إلا أنه هنا قد اختلف في واضع السلسلة، فحكى البيهقي عن بعضهم: أن الذي جعل السلسلة هو أنس بن مالك، وجزم به ابن الصلاح، وقال أيضاً: فيه نظر؛ لأن في البخاري من حديث عاصم الأحول: "رأيت قدح النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عند أنس بن مالك، فكان قد انصدع، فسلسله بفضة".
وقال ابن سيرين: إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال له أبو طلحة: "لا تغيرن شيئاً صنعه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فتركه" هذا لفظ البخاري. وهو يحتمل أن يكون الضمير في قوله فسلسله بفضة عائد إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ويحتمل أن يكون عائداً إلى أنس كما قال البيهقي، إلا أن اخر الحديث يدل للأول، وأن القدح لم يتغير عما كان عليه على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. قلت: والسلسلة غير الحلقة التي أراد أنس تغييرها، فالظاهر: أن قوله فسلسله هو النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهو حجة لما ذكره.
باب إزالة النجاسة وبيانها.
أي بيان النجاسة ومطهراتها
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سُئِلَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عَنِ الخَمْرِ: تُتّخَذُ خَلًّا؟ فقال: "لا" أخْرَجَهُ مسلمٌ والتِّرْمذي وقَالَ: حَسَنٌ صحيحٌ.
(وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن الخمر) أي بعد تحريمها (تتخذ خلاً. فقال: لا. أخرجه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح) فسر الاتخاذ: بالعلاج لها، وقد صارت خمراً، ومثله حديث أبي طلحة، فإنها لما حرمت الخمر سأل أبو طلحة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن خمر عنده لأيتام: هل يخللها؟ فأمره بإراقتها. أخرجه أبو داود والترمذي.
والعمل بالحديث هو رأي الهادوية والشافعي لدلالة الحديث على ذلك، فلو خللها لم تحل، ولم تطهر، وظاهره بأي علاج كان، ولو بنقلها من الظل إلى الشمس أو عكسه، وقيل: تطهر وتحل. وأما إذا تخللت بنفسها من دون علاج فإنها طاهرة حلال. إلا أنه قال في البحر: إن أكثر أصحابنا يقولون: إنها لا تطهر، وإن تخللت بنفسها من غير علاج.
واعلم أنّ للعلماء في خل الخمر ثلاثة أقوال:
الأول: أنها إذا تخللت الخمر بغير قصد حل خلها، وإذا خللت بالقصد حرم خلها.
الثاني: يحرم كل خل تولد عن خمر مطلقاً.
الثالث: أن الخل حلال مع تولده من الخمر سواء قصد أم لا، إلا أن فاعلها اثم إن تركها بعد أن صارت خمراً، عاص لله مجروح العدالة؛ لعدم إراقته لها حال خمريتها، فإنه واجب كما دل له حديث أبي طلحة. لكن قال في الشرح: يحل الخل الكائن عن الخمر، فإنه خل لغة وشرعاً.
وقيل: وجعل التخلل أيضاً من دون تخمر في صور. منها: إذا صب في إناء معتق بالخل عصير عنب فإنه يتخلل ولا يصير خمراً. ومنها: إذا جردت حبات العنب من عناقيدها، وملىء منها الإناء، وختم رأس الإناء بطين أو نحوه فإنه يتخلل ولا يصير خمراً. ومنها: إذا عصر أصل العنب، ثم ألقي عليه قبل أن يتخلل مثلاه خلاً صادقاً، فإنه يتخلل، ولا يصير خمراً أصلاً.
وعنه رضي الله عنه قال: لَمّا كان يَوْمُ خَيْبَر، أَمَرَ رَسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أبا طَلْحَةَ، فَنَادَى: "إنَّ الله ورَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيّةِ، فإنها رِجْسٌ" متفق عليه.
(وعنه) أي: عن أنس بن مالك (قال: لما كان يوم خيبر أمر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أبا طلحة فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم) بتثنية الضمير لله تعالى ولرسوله.
وقد ثبت أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال للخطيب الذي قال في خطبته: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما الحديث: "بئس خطيب القوم أنت" لجمعه بين ضمير الله تعالى وضمير رسوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقال: قل: "ومن يعص الله ورسوله". فالواقع هنا يعارضه، وقد وقع أيضاً في كلامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم التثنية بلفظ "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما".
وأجيب بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى الخطيب؛ لأن مقام الخطابة يقتضي البسط والإيضاح، فأرشده إلى أنه يأتي بالاسم الظاهر، لا بالضمير، وأنه ليس العتب عليه من حيث جمعه بين ضميره تعالى وضمير رسوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. الثاني أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له أن يجمع بين الضميرين وليس لغيره لعلمه بجلال ربه وعظمة الله.
(عن لحوم الحمر الأهلية) كما يأتي (فإنها رجس. متفق عليه) وحديث أنس في البخاري: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جاءه جاء فقال: أكلت الحمر، ثم جاءه جاء فقال: أكلت الحمر، ثم جاءه جاء فقال: أفنيت الحمر، فأمر منادياً ينادي: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية؛ فإنها رجس، فأكفئت القدور، وإنها لتفور بالحمر".
والنهي عن لحوم الحمر الأهلية ثابت في حديث علي عليه السلام، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وابن أبي أوفى، والبراء، وأبي ثعلبة، وأبي هريرة، والعرباض بن سارية، وخالد بن الوليد، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والمقدام بن معديكرب، وابن عباس، وكلها ثابتة في دواوين الإسلام، وقد ذكر من أخرجها في الشرح. وهي دالة على تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، وتحريمها هو قول الجماهير من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم؛ لهذه الأدلة.
وذهب ابن عباس إلى عدم تحريم الحمر الأهلية؛ وفي البخاري عنه: لا أدري أنهي عنها من أجل أنها كانت حمولة الناس، أو حرمت؟ ولا يخفى ضعف هذا القول؛ لأن الأصل في النهي التحريم وإن جهلنا علته، واستدل ابن عباس بعموم قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الاية، فإنه تلاها جواباً لمن سأله عن تحريمها، ولحديث أبي داود: "أنه جاء إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم غالب بن أبجر فقال: يا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أصابتنا سنة، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية، فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية" يريد التي تأكل الجلة وهي العذرة.
وأجيب: بأن الاية خصت عمومها الأحاديث الصحيحة المتقدمة، وبأن حديث أبي داود مضطرب مختلف فيه اختلافاً كثيراً، وإن صح حمل على الأكل منها عند الضرورة، كما دل عليه قوله: أصابتنا سنة، أي شدة وحاجة.
وذكر المصنف لهذين الحديثين في باب النجاسات وتعدادها مبني على أن التحريم من لازمه التنجيس، وهو قول الأكثر، وفيه خلاف.
والحق: أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن التحريم لا يلزم النجاسة، فإن الحشيشة محرمة طاهرة، وكذا المخدرات والسموم القاتلة لا دليل على نجاستها. وأما النجاسة فيلازمها التحريم، فكل نَجس محرم ولا عكس؛ وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع عن ملابستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم؛ فإنه يحرم لبس الحرير والذهب، وهما طاهران ضرورة شرعية وإجماعاً.
فإذا عرفت هذا فتحريم الحمر والخمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاستهما، بل لا بد من دليل اخر عليه، وإلا بقيتا على الأصل المتفق عليه من الطهارة. فمن ادعى خلافه فالدليل عليه، ولذا نقول: لا حاجة إلى إتيان المصنف بحديث عمرو بن خارجة الاتي قريباً مستدلاً به على طهارة لعاب الراحلة. وأما الميتة فلولا أنه ورد: "دباغ الأديم طهوره" "وأيما إهاب دبغ فقد طهر" لقلنا بطهارتها؛ إذ الوارد في القران تحريم أكلها، لكن حكمنا بالنجاسة لما قام عليها دليل غير دليل تحريمها.
وعن عَمرو بن خارجةَ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بِمِنَىً، وَهُوَ على رَاحِلَتِهِ، ولُعَابُهَا يسيل على كَتِفِي. أخرَجَهُ أحمَدُ والترمذيُّ وصححه.
(وعن عمرو بن خارجة) هو صحابي أنصاري عداده في أهل الشام، وكان حليفاً لأبي سفيان بن حرب، وهو الذي روى عنه عبد الرحمن بن غنم: أنه سمع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول في خطبته: "إنَّ الله قد أعطَى كلَّ ذي حق حقه فلا وصيَّة لوارث" (قال: خطبنا رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بمنىً وهو على راحلته) بالحاء المهملة وهي من الإبل الصالحة لأن ترحل (ولعابها) بضم اللام وعين مهملة وبعد الألف موحدة، هو: ما سال من الفم (يسيلُ على كتفي. أخرجه أحمد، والترمذي وصححه).
والحديث: دليل على أن لعاب ما يؤكل لحمه طاهر، قيل: وهو إجماع، وهو أيضاً الأصل، فذكر الحديث بيان للأصل، ثم هذا مبني على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم علم سيلان اللعاب عليه ليكون تقريراً.
وعن عائشة رَضِي الله عنها، قالت: كانَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَغْسِلُ الْمَنِيَّ، ثم يخرُجُ إلى الصَّلاة في ذلك الثّوبِ، وأنَا أَنْظُرُ إلى أثَرِ الْغَسْلِ. متفق عليه.
ولمسْلمٍ: لَقَدْ كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَرْكاً، فَيُصَلي فِيهِ.
وفي لفظ له: لَقَدْ كُنْتُ أَحُكُّهُ يابساً بظُفْري مِنْ ثَوْبِهِ.
(وعن عائشة رضي الله عنها) هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق. أمها أم رومان ابنة عامر. خطبها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بمكة، وتزوجها في شوال سنة عشرة من النبوة، وهي بنت ست سنين، وعرس بها أي دخل بها في المدينة في شوال سنة ثنتين من الهجرة وقيل: غير ذلك، وهي بنت تسع سنين من غير اعتبار الكسر ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة، ولم يتزوج بكراً غيرها، واستأذنت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الكنية، فقال لها: تكني بابن أختك عبد الله بن الزبير. وكانت فقيهة عالمة فصيحة فاضلة، كثيرة الحديث عن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، عارفة بأيام العرب وأشعارها. روى عنها جماعة من الصحابة والتابعين، نزلت براءتها من السماء في عشر ايات في سورة النور. توفي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في بيتها، ودفن فيه، وماتت بالمدينة سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين، ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان، ودفنت بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، وكان خليفة مروان في المدينة.
(قالت: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يغسلُ المنيَّ، ثم يخرُجُ إلى الصَّلاة في ذلك الثّوب، وأنا أنظرُ إلى أثر الغسل فيه. متفق عليه) وأخرجه البخاري أيضاً من حديث عائشة بألفاظ مختلفة: وأنها كانت تغسل المني من ثوبه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وفي بعضها: "وأثَرُ الغسل في ثوبهِ بقع الماء" وفي لفظ: "فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه" وفي لفظ: "وأثر الغسل فيه بقع الماء" وفي لفظ: "ثم أراه فيه بقعة أو بقعاً". إلا أنه قد قال البزار: إن حديث عائشة هذا مداره على سليمان بن يسار، ولم يسمع من عائشة، وسبقه إلى هذا الشافعي في الأم حكاية عن غيره. ورد ما قاله البزار بأن تصحيح البخاري له، وموافقة مسلم له على تصحيحه مفيد لصحة سماع سليمان من عائشة، وأن رفعه صحيح.
وبهذا الحديث استدل من قال: بنجاسة المني وهم الهادوية، والحنفية، ومالك، ورواية عن أحمد قالوا: لأن الغسل لا يكون إلا عن نجس، وقياساً على غيره من فضلات البدن المستقذرة من البول والغائط؛ لانصباب جميعها إلى مقر وانحلالها عن الغذاء؛ ولأن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة والمني منها؛ ولأنه يجري من مجرى البول، فتعين غسله بالماء كغيره من النجاسات، وتأولوا ما يأتي مما يفيده قوله: (ولمُسلم) أي عن عائشة رواية انفرد بلفظها عن البخاري وهي قولها: (لقد كنتُ أفرُكُهُ من ثَوْبِ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَرْكاً) مصدر تأكيدي يقرر أنها كانت تفركه وتحكه، والفرك: الدلك، يقال: فرك الثوب، إذا دلكه (فيصلي فيه، وفي لفظ له) أي لمسلم عن عائشة: (لقد كنتُ أحُكُهُ) أي المني حال كونه (يابساً بظفري من ثوبه). اختص مسلم بإخراج رواية الفرك، ولم يخرجها البخاري.
وقد روى الحت والفرك أيضاً البيهقي، والدارقطني، وابن خزيمة، وابن الجوزي، من حديث عائشة، ولفظ البيهقي: "ربما حتته من ثوب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو يصلي" ولفظ الدارقطني، وابن خزيمة: "أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو يصلي"، ولفظ ابن حبان: "لقد رأيتني أفرك المني من ثوب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو يصلي" رجاله رجال الصحيح؛ وقريب من هذا الحديث: حديث ابن عباس عند الدارقطني. والبيهقي، وقال البيهقي بعد إخراجه: ورواه وكيع، وابن أبي ليلى موقوفاً على ابن عباس، وهو الصحيح اهـ. سئل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن المني يصيب الثوب فقال: "إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق والبزاق وقال: إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخرة".
فالقائلون بنجاسة المني: تأولوا أحاديث الفرك هذه: بأن المراد به الفرك مع غسله بالماء وهو بعيد.
وقالت الشافعية: المني طاهر، واستدلوا على طهارته بهذه الأحاديث قالوا: وأحاديث غسله محمولة على الندب، وليس الغسل دليل النجاسة، فقد يكون لأجل النظافة، وإزالة الدرن، ونحوه. قالوا: وتشبيهه بالبزاق والمخاط دليل على طهارته أيضاً، والأمر بمسحه بخرقة، أو إذخرة لأجل إزالة الدرن المستكره بقاؤه في ثوب المصلى، ولو كان نجساً لما أجزأ مسحه. وأما التشبيه للمني بالفضلات المستقذرة من البول والغائط، كما قاله من قال بنجاسته، فلا قياس مع النص.
قال الأولون: هذه الأحاديث في فركه وحته إنما هي في منيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وفضلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم طاهرة فلا يلحق به غيره.
وأجيب عنه: بأن عائشة أخبرت عن فرك المني من ثوبه، فيحتمل أنه عن جماع، وقد خالطه مني المرأة، فلم يتعين أنه منيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وحده، والاحتلام على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير جائز؛ لأنه من تلاعب الشيطان، ولا سلطان له عليهم ولأنه قيل إنه منيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وأنه من فيض الشهوة بعد تقدم أسباب خروجه من ملاعبة ونحوها، وأنه لم يخالطه غيره، فهو محتمل، ولا دليل مع الاحتمال.
وذهبت الحنفية إلى نجاسة المني كغيرهم؛ ولكن قالوا: يطهره الغسل، أو الفرك، أو الإزالة بالإذخر، أو الخرقة عملاً بالحديثين. وبين الفريقين القائلين بالنجاسة، والقائلين بالطهارة مجادلات، ومناظرات، واستدلالات طويلة استوفيناها في حواشي شرح العمدة.
وعن أبي السّمْحِ رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، ويُرشُّ مِنْ بَوْلِ الغُلامِ" أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه الحاكمُ.
(وعن أبي السمح) بفتح السين المهملة وسكون الميم فحاء مهملة، واسمه إياد بكسر الهمزة ومثناة تحتية مخففة بعد الألف دال مهملة، وهو خادم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له حديث واحد (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يُغْسَلُ من بَوْلِ الجارية) في القاموس: أن الجارية فتية النساء (ويرش منْ بَوْل الغُلام" أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه الحاكم).
وأخرج الحديث أيضاً البزار، وابن ماجه، وابن خزيمة من حديث أبي السمح قال: "كنت أخدم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فأتي بحسن أو حسين، فبال على صدره فجئت أغسله، فقال: "يغسل من بول الجارية"، الحديث. وقد رواه أيضاً أحمد، وأبو داود وابن خزيمة، وابن ماجه، والحاكم من حديث لبابة بنت الحارث قالت: "كان الحسين وذكرت الحديث" وفي لفظه: "يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر" ورواه المذكورون، وابن حبان من حديث علي عليه السلام قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في بول الرضيع: "ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية" قال قتادة راويه: هذا ما لم يطعما فإذا طعما غسلا. وفي الباب أحاديث مرفوعة، وهي كما قال الحافظ البيهقي: إذا ضم بعضها إلى بعض قويت.
والحديث دليل على الفرق بين بول الغلام وبول الجارية في الحكم، وذلك قبل أن يأكلا الطعام، كما قيده به الراوي، وقد روي مرفوعاً أي بالتقييد بالطعم لهما. وفي صحيح ابن حبان، والمصنف لابن أبي شيبة عن ابن شهاب: "مضت السنة أن يرش بول من لم يأكل الطعام من الصبيان"، والمراد ما لم يحصل لهم الاغتذاء بغير اللبن على الاستقلال؛ وقيل: غير ذلك.
وللعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:
الأول: للهادوية، والحنفية، والمالكية، أنه يجب غسلها كسائر النجاسات قياساً لبولهما على سائر النجاسات، وتأولوا الأحاديث، وهو تقديم للقياس على النص.
الثاني: وجه للشافعية، وهو أصح الأوجه عندهم: أنه يكفي النضح في بول الغلام، لا الجارية، فكغيرها من النجاسات، عملاً بالأحاديث الواردة بالتفرقة بينهما، وهو قول علي عليه السلام، وعطاء، والحسن، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم.
والثالث: يكفي النضح فيهما وهو كلام الأوزاعي. وأما هل بول الصبي طاهر أو نجس؟ فالأكثر: على أنه نجس، وإنما خفف الشارع تطهيره.
واعلم أن النضح كما قاله النووي في شرح مسلم: هو أن الشيء الذي أصابه البول يغمر، ويكاثر بالماء مكاثرة لا تبلغ جريان الماء، وتردده، وتقاطره، بخلاف المكاثرة في غيره؛ فإنه يشترط أن تكون بحيث يجري عليها بعض الماء، ويتقاطر من المحل، وإن لم يشترط عصره، وهذا هو الصحيح المختار، وهو قول إمام الحرمين، والمحققين.
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أبي بكر رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ ــــ في دَمِ الحَيْضِ يُصيبُ الثّوبَ ــــ: "تَحُتُّهُ، ثمَّ تَقْرُصُهُ بالمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلي فيهِ" متفق عليه.
(وعن أسماء) بفتح الهمزة وسين مهملة فميم فهمزة ممدودة (بنت أبي بكر رضي الله عنهما) وهي أم عبد الله بن الزبير. أسلمت بمكة قديماً، وبايعت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهي أكبر من عائشة بعشر سنين، وماتت بمكة بعد أن قتل ابنها بأقل من شهر، ولها من العمر مائة سنة، وذلك سنة ثلاث وسبعين، ولم تسقط لها سن، ولا تغير لها عقل، وكانت قد عميت.
(أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال في دم الحيض يصيب الثوب: "تحته") بالفتح للمثناة الفوقية وضم الحاء المهملة وتشديد المثناة الفوقية، أي تحكه، والمراد بذلك إزالة عينه (ثمَّ تقرُصُهُ بالماء) أي الثوب، وهو بفتح المثناة الفوقية وإسكان القاف وضم الراء والصاد المهملتين: أي تدلك ذلك الدم بأطراف أصابعها ليتحلل بذلك ويخرج ما شربه الثوب منه (ثم تَنْضَحُهُ) بفتح الضاد المعجمة: أي تغسله بالماء (ثمَّ تصلي فيه" متفق عليه). ورواه ابن ماجه بلفظ: "اقرصيه بالماء واغسليه" ولابن أبي شيبة بلفظ: "اقرصيه بالماء، واغسليه، وصلي فيه". وروى أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن: "أنها سألت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن دم الحيض يصيب الثوب فقال: "حكيه بصلع، واغسليه بماء وسدر" قال ابن القطان: إسناده في غاية الصحة، ولا أعلم له علة، وقوله: بصلع بصاد مهملة مفتوحة فلام ساكنة وعين مهملة: الحجر.
والحديث دليل على نجاسة دم الحيض، وعلى وجوب غسله، والمبالغة في إزالته بما ذكر من الحت، والقرص، والنضح لإذهاب أثره، وظاهره: أنه لا يجب غير ذلك، وإن بقي من العين بقية، فلا يجب الحاد لإذهابها؛ لعدم ذكره في الحديث أي حديث أسماء، وهو محل البيان؛ ولأنه قد ورد في غيره: "ولا يضرك أثره".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالتْ خَوْلَةُ: يا رسُول الله، فإنْ لَمْ يَذْهَبِ الدَّمُ؟ قالَ: "يَكْفِيكِ الْمَاءُ، ولا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ" أخرجه الترمذي. وسنده ضعيف.
(وعن أبي هريرة قال: قالت خولة) بالخاء المعجمة مفتوحة وسكون الواو وهي بنت يسار، كما أفاده ابن عبد البر في الاستيعاب حيث قال: خولة بنت يسار (يا رسول الله فإن لم يذهب الدم قال: يكفيك الماءُ ولا يضُرُّكِ أثَرُهُ. أخرجه الترمذي وسنده ضعيف) ، وكذلك أخرجه البيهقي، لأن فيه ابن لهيعة. وقال إبراهيم الحربي: لم نسمع بخولة بنت يسار إلا في هذا الحديث. ورواه الطبراني في الكبير من حديث خولة بنت حكيم بإسناد أضعف من الأول. وأخرجه الدارمي من حديث عائشة موقوفاً عليها: "إذا غسلت المرأة الدم، فلم يذهب فلتغيره بصفرة أو زعفران" رواه أبو داود عنها موقوفاً أيضاً، وتغييره بالصفرة والزعفران ليس لقلع عينه، بل لتغطية لونه تنزهاً عنه.
والحديث دليل لما أشرنا: من أنه لا يجب استعمال الحاد لقطع أثر النجاسة وإزالة عينها. وبه أخذ جماعة من أهل البيت، ومن الحنفية، والشافعية.
واستدل من أوجب الحاد وهم الهادوية: بأن المقصود من الطهارة أن يكون المصلى على أكمل هيئة وأحسن زينة. ولحديث: "اقرصيه وأميطيه عنك بإذخرة".
قال في الشرح: ــــ وقد عرفت أن ما ذكره يفيد المطلوب، وأن القول الأول أظهر، هذا كلامه.
وقد يقال: ــــ قد ورد الأمر بالغسل لدم الحيض بالماء والسدر، والسدر من الحواد، والحديث الوارد به في غاية الصحة كما عرفت، فيقيد به ما أطلق في غيره، ويخص استعمال الحاد بدم الحيض، ولا يقاس عليه غيره من النجاسات، وذلك لعدم تحقق شروط القياس، ويحمل حديث: "ولا يضرك أثره" وحديث عائشة، وقولها: فلم يذهب، أي بعد الحاد.
فهذه الأحاديث في هذا الباب اشتملت من النجاسات على: الخمر، ولحوم الحمر الأهلية، والمني، وبول الجارية، والغلام، ودم الحيض. ولو أدخل المصنف بول الأعرابي في المسجد، ودباغ الأديم، ونحوه في هذا الباب، لكان أوجه.
باب الوضوء
في القاموس الوضوء يأتي بالضم الفعل وبالفتح ماؤه ومصدر أيضا أو لغتان ويعني بهما المصدر وقد يعنى بهما الماء يقال توضأت للصلاة وتوضيت لغية أو لثغة أهـ
واعلم أن الوضوء من أعظم شروط الصلاة وقد ثبت عند الشيخين من حديث أبي هريرة مرفوعا إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ وثبت حديث الوضوء شطر الإيمان وأنزل الله فريضته من السماء في قوله يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون الاية وهي مدنية واختلف العلماء هل كان فرض الوضوء بالمدينة أو بمكة فالمحققون على أنه فرض بالمدينة لعدم النص الناهض على خلافه ، وورد في الوضوء فضائل كثيرة منها حديث أبي هريرة عند مالك وغيره مرفوعا إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع اخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع اخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع اخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب. وأشمل منه ما أخرجه مالك أيضا من حديث عبد الله الصنابحي بضم الصاد المهملة وفتح النون وكسر الموحدة اخره مهملة نسبة إلى صنابح بطن من مراد وهو صحابي قال إن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من أظفار رجليه ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له وفي معناهما عدة أحاديث ، ثم هل الوضوء من خصائص هذه الأمة فيه خلاف المحققون على أنه ليس من خصائصها إنما الذي من خصائصها الغرة والتحجيل
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه قال لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء أخرجه مالك وأحمد والنسائي وصححه ابن خزيمة وذكره البخاري تعليقا
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه قال لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء أخرجه مالك وأحمد والنسائي وصححه ابن خزيمة وذكره البخاري تعليقا. المعلق هو ما يسقط من أول إسناده راو فأكثر.
قال في الشرح الحديث متفق عليه عند الشيخين من حديث أبي هريرة وهذا لفظه ، قال ابن منده إسناده مجمع على صحته.
قال النووي غلط بعض الكبار فزعم أن البخاري لم يخرجه.
قلت وظاهر صنيع المصنف هنا يقضي بأنه لم يخرجه واحد من الشيخين وهو من أحاديث عمدة الأحكام التي لا يذكر فيها إلا ما أخرجه الشيخان إلا أنه بلفظ عند كل صلاة. وفي معناه عدة أحاديث عن عدة من الصحابة منها عن علي عليه السلام عند أحمد وعن زيد بن خالد عند الترمذي وعن أم حبيبة عند أحمد وعن عبد الله بن عمر وسهل بن سعد وجابر وأنس عند أبي نعيم وأبي أيوب عند أحمد والترمذي ومن حديث ابن عباس وعائشة عند مسلم وأبي داود وورد الأمر به من حديث تسوكوا فإن السواك مطهرة للفم أخرجه ابن ماجه وفيه ضعف ولكن له شواهد عديدة دالة على أن للأمر به أصلا.
وورد في أحاديث أن السواك من سنن المرسلين وأنه من خصال الفطرة وأنه من الطهارات وأن فضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعون ضعفا أخرجها أحمد وابن خزيمة والحاكم والدارقطني وغيرهم.
قال في البدر المنير قد ذكر في السواك زيادة على مائة حديث فواعجبا لسنة تأتي فيها الأحاديث الكثيرة ثم يهملها كثير من الناس بل كثير من الفقهاء فهذه خيبة عظيمة.
هذا ولفظ السواك بكسر السين في اللغة يطلق على الفعل وعلى الالة ويذكر ويؤنث وجمعه سوك ككتاب وكتب ويراد به في الاصطلاح استعمال عود أو نحوه في الأسنان لتذهب الصفرة وغيرها قلت وعند ذهاب الأسنان أيضا يشرع لحديث عائشة قلت يا رسول الله الرجل يذهب فوه ويستاك قال نعم ، قلت وكيف يصنع قال يدخل أصبعه في فيه أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه ضعف.
وأما حكمه فهو سنة عند جماهير العلماء وقيل بوجوبه وحديث الباب دليل على عدم وجوبه لقوله في الحديث لأمرتهم أي أمر إيجاب فإنه ترك الأمر به لأجل المشقة لا أمر الندب فإنه قد ثبت بلا مرية
والحديث دل على تعيين وقته وهو عند كل وضوء وفي الشرح أنه يستحب في جميع الأوقات ويشتد استحبابه في خمسة أوقات أحدها عند الصلاة سواء كان متطهرا بماء أو تراب أو غير متطهر كمن لم يجد ماء ولا ترابا
الثاني عند الوضوء
الثالث عند قراءة القران
الرابع عند الاستيقاظ من النوم
الخامس عند تغير الفم
قال ابن دقيق العيد السر فيه أي في السواك عند الصلاة أنا مأمورون في كل حال من أحوال التقرب إلى الله أن نكون في حالة كمال ونظافة إظهارا لشرف العبادة وقد قيل إن ذلك الأمر يتعلق بالملك وهو أنه يضع فاه على القارئ ويتأذى بالرائحة الكريهة فسن السواك لأجل ذلك وهو وجه حسن ، ثم ظاهر الحديث أنه لا يخص صلاة في استحباب السواك لها في إفطار ولا صيام.والشافعي يقول لا يسن بعد الزوال في الصوم لئلا يذهب به خلوف الفم المحبوب إلى الله تعالى. وأجيب بأن السواك لا يذهب به الخلوف فإنه صادر من خلو المعدة ولا يذهب بالسواك ، ثم هل يسن ذلك للمصلي وإن كان متوضئا كما يدل له حديث عند كل صلاة قيل نعم يسن ذلك وقيل لا يسن إلا عند الوضوء لحديث مع كل وضوء وأنه يقيد إطلاق عند كل صلاة بأن المراد عند وضوء كل صلاة
ولو قيل إنه يلاحظ المعنى الذي لأجله شرع السواك فإن كان قد مضى وقت طويل يتغير فيه الفم بأحد المغيرات التي ذكرت وهي أكل ما له رائحة كريهة وطول السكوت وكثرة الكلام وترك الأكل والشرب شرع السواك وإن لم يتوضأ وإلا فلا لكان وجها
وقوله في رسم السواك اصطلاحا أو نحوه أي نحو العود ويريدون به كل ما يزيل التغير كالخرقة الخشنة والأصبع الخشنة والأشنان. والأحسن أن يكون السواك عود أراك متوسطا لا شديد اليبس فيجرح اللثة ولا شديد الرطوبة فلا يزيل ما يراد إزالته.
وعن حمران أن عثمان دعا بوضوء فغسل كفيه ثلاث مرات ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ثم اليسرى مثل ذلك ثم مسح برأسه ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ثم اليسرى مثل ذلك ثم قال رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ نحو وضوئي هذا متفق عليه.
وعن حمران رضي الله عنه بضم الحاء المهملة وسكون الميم وبالراء هو ابن أبان بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة وهو مولى عثمان بن عفان أرسله له خالد بن الوليد من بعض من سباه في مغازيه فأعتقه عثمان أن عثمان هو ابن عفان تأتي ترجمته قريبا دعا بوضوء أي بماء يتوضأ به فغسل كفيه ثلاث مرات هذا من سنن الوضوء باتفاق العلماء وليس هو غسلهما عند الاستيقاظ الذي سيأتي حديثه بل هذا سنة الوضوء فلو استيقظ وأراد الوضوء فظاهر الحديثين أنه يغسلهما للاستيقاظ ثلاث مرات ثم للوضوء كذلك ويحتمل تداخلهما ، ثم تمضمض المضمضة أن يجعل الماء في الفم ثم يمجه وكمالها أن يجعل الماء في فثه ثم يديره ثم يمجه كذا في الشرح وفي القاموس المضمضة تحريك الماء في الفم فجعل من مسماها التحريك ولم يجعل منه المج ولم يذكر في حديث عثمان هل فعل ذلك مرة أو ثلاثا لكن في حديث علي عليه السلام أنه مضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى فعل هذا ثلاثا ثم قال هذا طهور نبي الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم واستنشق الاستنشاق إيصال الماء إلى داخل الأنف وجذبه بالنفس إلى أقصاه واستنثر الاستثنار عند جمهور أهل اللغة والمحدثين والفقهاء إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق ثم غسل وجهه ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى فيه بيان لما أجمل في الاية من قوله يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون الآية وأنه يقدم اليمنى إلى المرفق بكسر ميمه وفتح فائه وبفتحها وكسر فائه ،وكلمة إلى في الأصل للانتهاء وقد تستعمل بمعنى مع وبينت الأحاديث أنه المراد كما في حديث جابر كان يدير الماء على مرفقيه أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ، أخرجه الدارقطني بسند ضعيف وأخرج بسند حسن في صفة وضوء عثمان أنه غسل يديه إلى المرفقين حتى مسح أطراف العضدين وهو عند البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء وغسل ذراعيه حتى جاوز المرافق وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه ثم غسل ذراعيه حتى سال الماء على مرفقيه فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا. قال إسحاق بن راهويه إلى في الآية يحتمل أن تكون بمعنى الغاية وأن تكون بمعنى مع فبينت السنة أنها بمعنى مع.
قال الشافعي لا أعلم خلافا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء وبهذا عرفت أن الدليل قد قام على دخول المرافق قال الزمخشري لفظ إلى يفيد معنى الغاية مطلقا فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل ثم ذكر أمثلة لذلك وقد عرفت أنه قد قام ها هنا الدليل على دخولها ثلاث مرات ثم اليسرى مثل ذلك أي إلى المرافق ثلاث مرات ثم مسح برأسه هو موافق للاية في الإتيان بالباء ومسح يتعدى بها وبنفسه.
قال القرطبي إن الباء هنا للتعدية يجوز حذفها وإثباتها وقيل دخلت الباء ها هنا لمعنى تفيده وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به فلو قال امسحوا رؤوسكم لأجزأ المسح باليد بغير ماء وكأنه قال فامسحوا برؤوسكم الماء وهو من باب القلب والأصل فيه فامسحوا بالماء رؤوسكم.
ثم اختلف العلماء هل يجب مسح الرأس أو بعضه قالوا والاية لا تقتضي أحد الأمرين بعينه إذ قوله وامسحوا برءوسكم يحتمل جميع الرأس أو بعضه ولا دلالة في الاية عل استيعابه ولا عدم استيعابه لكن من قال يجزىء مسح بعضه قال إن السنة وردت مبينة لأحد احتمالي الاية وهو ما رواه الشافعي من حديث عطاء أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه وهو وإن كان مرسلا فقد اعتضد بمجيئه مرفوعا من حديث أنس وهو وإن كان في سنده مجهول فقد عضد بما أخرجه سعيد بن منصور من حديث عثمان في صفة الوضوء أنه مسح مقدم رأسه وفيه راو مختلف فيه.
وثبت عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس قاله ابن المنذر وغيره ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، ومن العلماء من يقول لا بد من مسح البعض مع التكميل على العمامة لحديث المغيرة وجابر بن مسلم ، ولم يذكر في هذه الرواية تكرار مسح الرأس كما ذكره في غيرها وإن كان قد طوى ذكر التكرار أيضا في المضمضة كما عرفت وعدم الذكر لا دليل فيه ويأتي الكلام في ذلك
ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات الكلام في ذلك كما تقدم في يده اليمنى إلى المرفق إلا أن المرافق قد اتفق على مسماها بخلاف الكعبين فوقع في المراد بهما خلاف المشهور أنه العظم الناشز عند ملتقى الساق وهو قول الأكثر وحكى عن أبي حنيفة والإمامية أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك وفي المسألة مناظرات ومقاولات طويلة
قال في الشرح ومن أوضح الأدلة أي على ما قاله الجمهور حديث النعمان بن بشير في صفة الصف في الصلاة فرأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه
قلت ولا يخفى أنه لا ينهض فيه لأن المخالف يقول أنا أسميه كعبا ولا أخالفكم فيه لكني أقول إنه غير المراد في اية الوضوء إذ الكعب يطلق على الناشز وعلى ما في ظهر القدم وغاية ما في حديث النعمان أنه سمي الناشز كعبا ولا خلاف في تسميته وقد أيدنا في حواشي ضوء النهار أرجحية مذهب الجمهور بأدلة هنالك ثم اليسرى مثل ذلك أي الكعبين ثلاث مرات ثم قال أي عثمان رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ نحو وضوئي هذا متفق عليه.
وتمام الحديث فقال أي رسول صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه أي لا يحدث نفسه فيهما بأمور الدنيا وما لا تعلق له بالصلاة ولو عرض له حديث
فأعرض عنه بمجرد عروضه عفى عنه ولا يعد محدثا لنفسه
واعلم أن الحديث قد أفاد الترتيب بين الأعضاء المعطوفة بثم وأفاد التثليث ولم يدل على الوجوب لأنه إنما هو صفة فعل ترتبت عليه فضيلة ولم يترتب عليه عدم إجزاء الصلاة إلا إذا كان بصفته ولا ورد بلفظ يدل على إيجاب صفاته. فأما الترتيب فخالفت فيه الحنفية وقالوا لا يجب وأما التثليث فغير واجب بالإجماع وفيه خلاف شاذ. ودليل عدم وجوبه تصريح الأحاديث بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ مرتين مرتين ومرة مرة وبعض الأعضاء ثلثها وبعضها بخلاف ذلك وصرح في وضوء مرة مرة أنه لا يقبل الله الصلاة إلا به ، وأما المضمضة والاستنشاق فقد اختلف في وجوبهما ، فقيل يجبان لثبوت الأمر بهما في حديث أبي داود بإسناد صحيح ، وفيه وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ولأنه واظب عليهما في جميع وضوئه. وقيل إنهما سنة بدليل حديث أبي داود والدارقطني وفيه إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله تعالى فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين فلم يذكر المضمضمة والاستنشاق فإنه اقتصر فيه على الواجب الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به وحينئذ فيؤول حديث الأمر بأنه أمر ندب.
وعن علي رضي الله عنه في صفة وضوء النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال ومسح برأسه واحدة.
أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي والنسائي بإسناد صحيح ، بل قال الترمذي إنه أصح شيء في الباب
وعن علي عليه السلام هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أول من أسلم من الذكور في أكثر الأقوال على خلاف في سنه كم كان وقت إسلامه وليس في الأقوال أنه بلغ ثماني عشرة بل مترددة بين ست عشرة إلى سبع سنين شهد المشاهد كلها إلا تبوك فأقامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في المدينة خليفة عنه وقال له أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. استخلف يوم قتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشر خلت من شهر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين واستشهد صبح الجمعة بالكوفة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين ومات بعد ثلاث من ضربة الشقي ابن ملجم له وقيل غير ذلك
وخلافته أربع سنين وسبعة أشهر وأيام وقد ألفت في صفاته وبيان أحواله كتب جمة واستوفينا شطرا صالحا من ذلك في الروضة الندية شرح التحفة العلوية.
في صفة وضوء النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال ومسح برأسه واحدة. أخرجه أبو داود هو قطعة من حديث طويل استوفى فيه صفة الوضوء من أوله إلى اخره وهو يفيد ما أفاد حديث عثمان وإنما أتى المصنف بما فيه التصريح بما لم يصرح به في حديث عثمان وهو مسح الرأس مرة فإنه نص أنه واحدة مع تصريحه بتثليث ما عداه من الأعضاء
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال قوم بتثليث مسحه كما يثلث غيره من الأعضاء إذ هو من جملتها وقد ثبت في الحديث تثليثه وإن لم يذكر في كل حديث ذكر فيه تثليث الأعضاء فإنه قد أخرج أبو داود من حديث عثمان في تثليث المسح أخرجه من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وذلك كاف في ثبوت هذه السنة. وقيل لا يشرع تثليثه لأن أحاديث عثمان الصحاح كلها كما قال أبو داود تدل على مسح الرأس مرة واحدة وبأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل ، أجيب بأن كلام أبي داود ينقضه ما رواه هو وصححه ابن خزيمة كما ذكرناه. والقول بأن المسح مبني على التخفيف قياس في مقابلة النص فلا يسمع فالقول بأنه يصير في صورة الغسل لا يبالي به بعد ثبوته عن الشارع ثم رواية الترك لا تعارض رواية الفعل وإن كثرت رواية الترك إذ الكلام في أنه غير واجب بل سنة من شأنها أن تفعل أحيانا وتترك أحيانا. وأخرجه أي حديث علي عليه السلام النسائي والترمذي بإسناد صحيح بل قال الترمذي إنه أصح شيء في الباب وأخرجه أبو داود من ست طرق وفي بعض طرقه لم يذكر المضمضة والاستنشاق وفي بعض ومسح على رأسه حتى لم يقطر.
وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنهما في صفة الوضوء قال ومسح رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم برأسه فأقبل بيديه وأدبر. متفق عليه
وفي لفظ لهما بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه.
وعن عبد الله بن زيد بن عاصم هو الأنصاري المازني من مازن بن النجار شهد أحدا وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب وشاركه وحشي وقتل عبد الله يوم الحرة سنة ثلاث وستين ، وهو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي يأتي حديثه في الأذان وقد غلط فيه بعض أئمة الحديث فلذا نبهنا عليه في صفة الوضوء قال ومسح رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم برأسه فأقبل بيديه وأدبر متفق عليه فسر الإقبال بهما بأنه بدأ من مؤخر رأسه فإن الإقبال باليد إذا كان مقدما يكون من مؤخر الرأس إلا أنه قد ورد في البخاري بلفظ وأدبر بيديه وأقبل واللفظ الآخر في قوله وفي لفظ لهما أي للشيخين بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما أي اليدين إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه.
الحديث يفيد صفة المسح للرأس وهو أن يأخذ الماء ليديه فيقبل بهما ويدبر.
وللعلماء ثلاثة أقوال الأول يبدأ بمقدم رأسه الذي يلي الوجه فيذهب إلى القفا ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه وهو مبتدأ الشعر من حد الوجه وهذا هو الذي يعطيه ظاهر قوله بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه إلا أنه أورد على هذه الصفة أنه أدبر بهما وأقبل لأن ذهابه إلى جهة القفا إدبار ورجوعه إلى الوجه إقبال. وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب فالتقدير أدبر وأقبل
والثاني أن يبدأ بمؤخر رأسه ويمر إلى جهة الوجه ثم يرجع إلى المؤخر محافظة على ظاهر لفظ أقبل وأدبر فالإقبال إلى مقدم الوجه والإدبار إلى ناحية المؤخر وقد وردت هذه الصفة في الحديث الصحيح بدأ بمؤخر رأسه. ويحمل الاختلاف في لفظ الأحاديث على تعدد الحالات
والثالث أن يبدأ بالناصية ويذهب إلى ناحية الوجه ثم يذهب إلى جهة مؤخر الرأس ثم يعود إلى ما بدأ منه وهو الناصية. ولعل قائل هذا قصد المحافظة على قوله بدأ بمقدم رأسه مع المحافظة على ظاهر لفظ أقبل وأدبر لأنه إذا بدأ بالناصية صدق أنه بدأ بمقدم رأسه وصدق أنه أقبل أيضا فإنه ذهب إلى ناحية الوجه وهو القبل وقد أخرج أبو داود من حديث المقدام أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما بلغ مسح رأسه وضع كفيه على مقدم رأسه فأمرهما حتى بلغ القفا ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه وهي عبارة واضحة في المراد ، والظاهر أن هذا من العمل المخير فيه وأن المقصود من ذلك تعميم الرأس بالمسح
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في صفة الوضوء قال ثم مسح برأسه وأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه.
أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة
وعن عبد الله بن عمرو بفتح العين المهملة وهو أبو عبد الرحمن أو أبو محمد
عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي يلتقي مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في كعب بن لؤي أسلم عبد الله قبل أبيه وكان أبوه أكبر منه بثلاث عشرة سنة وكان عبد الله عالما حافظا عابدا ، وكانت وفاته سنة ثلاث وستين وقيل وسبعين وقيل غير ذلك واختلف في موضع وفاته فقيل بمكة أو الطائف أو مصر أو غير ذلك في صفة الوضوء قال ثم مسح أي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم برأسه وأدخل إصبعيه السباحتين بالمهملة فموحدة فألف بعدها مهملة تثنية سباحة وأراد بهما مسبحتي اليد اليمنى واليسرى وسميت سباحة لأنه يشار بها عند التسبيح في أذنيه ومسح بإبهاميه إبهامي يديه ظاهر أذنيه. أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة
والحديث كالأحاديث الأول في صفة الوضوء إلا أنه أتى به المصنف لما ذكر من إفادة مسح الأذنين الذي لم تفده الأحاديث التي سلفت ولذا اقتصر على ذلك من الحديث
ومسح الأذنين قد ورد في عدة من الأحاديث من حديث المقدام بن معديكرب عند أبي داود والطحاوي بإسناد حسن
ومن حديث الربيع أخرجه أبو داود أيضا ومن حديث أنس عند الدارقطني والحاكم
ومن حديث عبد الله بن زيد وفيه أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسح أذنيه بماء غير الماء الذي مسح به رأسه
وسيأتي وقال فيه البيهقي هذا إسناد صحيح وإن كان قد تعقبه ابن دقيق العيد وقال الذي في ذلك الحديث ومسح رأسه بماء غير فضل يديه ولم يذكر الأذنين وأيده المصنف بأنه عند ابن حبان والترمذي كذلك
واختلف العلماء هل يؤخذ للأذنين ماء جديد أو يمسحان ببقية ما مسح به الرأس والأحاديث قد وردت بهذا وهذا
وسيأتي الكلام عليه قريبا
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاثا فإن الشيطان يبيت على خيشومه. متفق عليه
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا استيقظ أحدكم من منامه ظاهره ليلا أو نهارا فليستنثر ثلاثا في القاموس استنثر استنشق الماء ثم استخرج ذلك بنفس الأنف اه وقد جمع بينهما في بعض الأحاديث فمع الجمع يراد من الاستنثار دفع الماء من الأنف ومن الاستنشاق جذبه إلى الأنف فإن الشيطان يبيت على خيشومه هو أعلى الأنف وقيل الأنف كله وقيل عظام رقاق لينة في أقصى الأنف بينه وبين الدماغ وقيل غير ذلك متفق عليه
الحديث دليل على وجوب الاستنثار عند القيام من النوم مطلقا إلا أن في رواية للبخاري إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا فإن الشيطان الحديث فيقيد الأمر المطلق به هنا بإرادة الوضوء ويقيد النوم بمنام الليل كما يفيده لفظ يبيت إذ البيتوتة فيه ، وقد يقال إنه خرج على الغالب فلا فرق بين نوم الليل ونوم النهار
والحديث من أدلة القائلين بوجوب الاستنثار دون المضمضة وهو مذهب أحمد وجماعة ، وقال الجمهور لا يجب بل الأمر للندب واستدلوا بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للأعرابي توضأ كما أمرك الله وعين له ذلك في قوله لا تتم صلاة أحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين كما أخرجه أبو داود من حديث رفاعة ولأنه قد ثبت من روايات صفة وضوئه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من حديث عبد الله بن زيد وعثمان وابن عمرو بن العاص عدم ذكرهما مع استيفاء صفة وضوئه وثبت ذكرهما أيضا وذلك من أدلة الندب.
وقوله يبيت الشيطان قال القاضي عياض يحتمل أن يكون على حقيقته فإن الأنف أحد منافذ الجسم التي يتوصل إلى القلب منها بالاشتمام وليس من منافذ الجسم ما ليس عليه غلق سواه وسوى الأذنين
وفي الحديث إن الشيطان لا يفتح غلقا وجاء في التثاؤب الأمر بكظمه من أجل دخول الشيطان حينئذ في الفم ويحتمل الاستعارة فإن الذي ينعقد من الغبار من رطوبة الخياشيم قذارة توافق الشيطان ، قلت والأول أظهر.
وعنه إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده. متفق عليه وهذا لفظ مسلم
وعنه أي أبي هريرة عند الشيخين أيضا إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده خرج ما إذا أدخل يده بالمغرفة ليستخرج الماء فإنه جائز إذ لا غمس فيه لليد وقد ورد بلفظ لا يدخل لكن يراد به إدخالها للغمس لا للأخذ في الإناء يخرج البرك والحياض حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده متفق عليه وهذا لفظ مسلم
الحديث يدل على إيجاب غسل اليد لمن قام من نومه ليلا أو نهارا وقال بذلك من نوم الليل أحمد لقوله باتت فإنه قرينة إرادة النوم بالليل كما سلف إلا أنه قد ورد بلفظ إذا قام أحدكم من الليل عند أبي داود والترمذي من وجه اخر صحيح إلا أنه يرد عليه أن التعليل يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل. وذهب غيره وهو الشافعي ومالك وغيرهما إلى أن الأمر في رواية فليغسل للندب والنهي الذي في هذه الرواية للكراهة والقرينة عليه ذكر العدد فإن ذكره في غير النجاسة العينية دليل الندب ولأنه علل بأمر يقتضي الشك والشك لا يقتضي الوجوب في هذا الحكم استصحابا لأصل الطهارة ولا تزول الكراهة إلا بالثلاث الغسلات وهذا في المستيقظ من النوم
وأما من يريد الوضوء من غير نوم فيستحب له لما مر في صفة الوضوء ولا يكره الترك لعدم ورود النهي فيه والجمهور على أن النهي والأمر لاحتمال النجاسة في اليد وأنه لو درى أين باتت يده كمن لف عليها فاستيقظ وهي على حالها فلا يكره له أن يغمس يده وإن كان غسلهما مستحبا كما في المستيقظ وغيرهم يقولون الأمر بالغسل تعبد فلا فرق بين الشاك والمتيقن وقولهم أظهر كما سلف
وعن لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما أخرجه الأربعة وصححه ابن خزيمة
ولأبي داود في رواية إذا توضأت فمضمض
وعن لقيط بفتح اللام وكسر القاف ابن عامر ابن صبرة بفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة كنيته أبو رزين كما قاله ابن عبد البر صحابي مشهور عداده في أهل الطائف قال قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أسبغ الوضوء الإسباغ الإتمام واستكمال الأعضاء وخلل بين الأصابع ظاهر في إرادة أصابع اليدين والرجلين وقد صرح بهما في حديث ابن عباس إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك يأتي من أخرجه قريبا وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما أخرجه الأربعة وصححه ابن خزيمة ولأبي داود في رواية إذا توضأت فمضمض وأخرجه أحمد والشافعي وابن الجارود وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي والبغوي وابن القطان. والحديث دليل على وجوب إسباغ الوضوء وهو إتمامه واستكمال الأعضاء وفي القاموس أسبغ الوضوء أبلغه مواضعه ووفى كل عضو حقه وفي غيره مثله
فليس التثليث للأعضاء من مسماه ولكن التثليث مندوب ولا يزيد على الثلاث فإن شك هل غسل العضو مرتين أو ثلاثا جعلها مرتين ، وقال الجويني يجعل ذلك ثلاثا ولا يزيد عليها مخافة من ارتكاب البدعة وأما ما روي عن ابن عمر أنه كان يغسل رجليه سبعا ففعل صحابي لا حجة فيه ومحمول على أنه كان يغسل الأربع من نجاسة لا تزول إلا بذلك
ودليل على إيجاب تخليل الأصابع وقد ثبت من حديث ابن عباس أيضا كما أشرنا إليه وهو الذي أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه والحاكم وحسنه البخاري
وكيفيته أن يخلل بيده اليسرى بالخنصر منها ويبدأ بأسفل الأصابع ، وأما كون التخليل باليد اليسرى فليس في النص وإنما قال الغزالي إنه يكون بها قياسا على الاستنجاء.
وقد روى أبو داود والترمذي من حديث المستورد بن شداد رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا توضأ يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه وفي لفظ لابن ماجه يخلل بدل يدلك.
والحديث دليل على المبالغة في الاستنشاق لغير الصائم وإنما لم يكن في حقه المبالغة لئلا ينزل إلى حلقه ما يفطره ودل على ذلك أن المبالغة ليست بواجبة إذ لو كانت واجبة لوجب عليه التحري ولم يجز له تركها.
وقوله في رواية أبو داود إذا توضأت فمضمض يستدل به على وجوب المضمضة ومن قال لا تجب جعل الأمر للندب لقرينة ما سلف من حديث رفاعة بن رافع في أمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للأعرابي بصفة الوضوء الذي لا تجزىء الصلاة إلا به ولم يذكر فيه المضمضة والاستنشاق.
وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يخلل لحيته في الوضوء
أخرجه الترمذي وصححه ابن خزيمة
وعن عثمان رضي الله عنه هو أبو عبد الله عثمان بن عفان الأموي القرشي أحد الخلفاء وأحد العشرة أسلم في أول الإسلام وهاجر إلى الحبشة الهجرتين وتزوج بنتي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رقية أولا ثم لما توفيت زوجه النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأم كلثوم ، استخلف في أول يوم من المحرم سنة أربع وعشرين ، وقتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة الحرام سنة خمس وثلاثين ودفن ليلة السبت بالبقيع وعمره اثنتان وثمانون سنة وقيل غير ذلك. أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يخلل لحيته في الوضوء أخرجه الترمذي وصححه ابن خزيمة
والحديث أخرجه الحاكم والدارقطني وابن حبان من رواية عامر بن شقيق عن أبي وائل ، قال البخاري حديثه حسن ، وقال الحاكم لا نعلم فيه ضعفا بوجه من الوجوه ، هذا كلامه وقد ضعفه ابن معين وقد روى الحاكم للحديث شواهد عن أنس وعائشة وعلي وعمار.
قال المصنف وفيه أيضا عن أم سلمة وأبي أيوب وأبي أمامة وابن عمر وجابر وابن عباس وأبي الدرداء وقد تكلم على جميعها بالتضعيف إلا حديث عائشة وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه ليس في تخليل اللحية شيء.
وحديث عثمان هذا دال على مشروعية تخليل اللحية ، وأما وجوبه فاختلف فيه فعند الهادوية يجب كقبل نباتها لأحاديث وردت بالأمر بالتخليل إلا أنها أحاديث ما سلمت عن الإعلال والتضعيف فلم تنتهض على الإيجاب.
وعن عبد الله بن زيد قال أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أتي بثلثي مد فجعل يدلك ذراعيه. أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة
وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أتي بثلثي مد بضم الميم وتشديد الدال المهملة في القاموس مكيال وهو رطلان أو رطل وثلث أو ملء كفي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومد يده بهما ومنه سمي مدا وقد جربت ذلك فوجدته صحيحا اهـ. فجعل يدلك ذراعيه أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة
وقد أخرج أبو داود من حديث أم عمارة الأنصارية بإسناد حسن أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ بإناء فيه قدر ثلثي مد. ورواه البيهقي من حديث عبد الله بن زيد فثلثا المد هو أقل ما روي أنه توضأ به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
وأما حديث أنه توضأ بثلث مد فلا أصل له وقد صحح أبو زرعة من حديث عائشة وجابر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد وأخرج مسلم نحوه من حديث سفينة وأبو داود من حديث أنس توضأ من إناء يسع رطلين والترمذي بلفظ يجزىء في الوضوء رطلان. وهي كلها قاضية بالتخفيف في ماء الوضوء وقد علم نهيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن الإسراف في الماء وإخباره أنه سيأتي قوم يعتدون في الوضوء فمن جاوز ما قال الشارع أنه يجزىء فقد أسرف فيحرم وقول من قال إن هذا تقريب لا تحديد ما هو ببعيد لكن الأحسن بالمتشرع محاكاة أخلاقه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والاقتداء به في كمية ذلك ، وفيه دليل على مشروعية الدلك لأعضاء الوضوء وفيه خلاف فمن قال بوجوبه استدل بهذا ومن قال لا يجب قال لأن المأمور به في الاية الغسل وليس الدلك من مسماه ولعله يأتي ذكر ذلك.
وعنه أنه رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يأخذ لأذنيه ماء غير الماء الذي أخذه لرأسه.
أخرجه البيهقي وهو عند مسلم من هذا الوجه بلفظ ومسح برأسه بماء غير فضل يديه وهو المحفوظ
وعنه أي عن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يأخذ لأذنيه ماء غير الماء الذي أخذه لرأسه. أخرجه البيهقي وهو أي هذا الحديث عند مسلم من هذا الوجه بلفظ ومسح برأسه بماء غير فضل يديه ، وهو المحفوظ ، وذلك أنه ذكر المصنف في التلخيص عن ابن دقيق العيد أن الذي ره في الرواية هو بهذا اللفظ الذي قال المصنف إنه المحفوظ. وقال المصنف أيضا إنه الذي في صحيح ابن حبان وفي رواية الترمذي ولم يذكر في التلخيص أنه أخرجه مسلم ولا رأيناه في مسلم ، إذا كان كذلك فأخذ ماء جديد للرأس هو أمر لا بد منه وهو الذي دلت عليه الأحاديث وحديث البيهقي هذا هو دليل أحمد والشافعي أنه يؤخذ للأذنين ماء جديد وهو دليل ظاهر. وتلك الأحاديث التي سلفت غاية ما فيها أنه لم يذكر أحد أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أخذ ماء جديدا وعدم الذكر ليس دليلا على عدم الفعل إلا أن كثرة طرقه يشد بعضه بعضا ويشهد لها أحاديث مسحهما مع الرأس مرة واحدة وهي أحاديث كثيرة عن علي وابن عباس والربيع وعثمان وكلهم متفقون على أنه مسحهما مع الرأس مرة واحدة أي بماء واحد كما هو ظاهر لفظ مرة إذ لو كان يؤخذ للأذنين ماء جديد ما صدق أنه مسح رأسه وأذنيه مرة واحدة وإن احتمل أن المراد أنه لم يكرر مسحهما وأنه أخذ لهما ماء جديدا فهو احتمال بعيد وتأويل حديث إنه أخذ لهم ماء خلاف الذي مسح به رأسه أقرب ما يقال فيه إنه لم يبق في يده بلة تكفي لمسح الأذنين فأخذ لهما ماء جديدا.
وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل متفق عليه واللفظ لمسلم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا بضم الغين المعجمة وتشديد الراء جمع أغر أي ذوي غرة وأصلها لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس ، في النهاية يريد بياض وجوههم بنور الوضوء يوم القيامة ونصبه على أنه حال من فاعل يأتون وعلى رواية يدعون يحتمل المفعولية محجلين بالمهملة والجيم من التحجيل ، في النهاية أي بيض مواضع الوضوء من الأيدي والأقدام ، استعار أثر الوضوء في الوجه واليدين والرجلين للإنسان من البياض الذي يكون في وجه الفرس ويديه ورجليه من أثر الوضوء بفتح الواو لأنه الماء ويجوز الضم عند البعض كما تقدم فمن استطاع منكم أن يطيل غرته أي وتحجيله وإنما اقتصر على أحدهما لدلالته على الاخر واثر الغرة وهي مؤنثة على التحجيل وهو مذكر لشرف موضعها وفي رواية لمسلم فليطل غرته وتحجيله فليفعل متفق عليه واللفظ لمسلم
وظاهر السياق أن قوله فمن استطاع إلى اخره من الحديث وهو يدل على عدم الوجوب إذ هو في قوة من شاء منكم فلو كان واجبا ما قيده بها إذ الاستطاعة لذلك متحققة قطعا وقال نعيم أحد رواته لا أدري قوله فمن استطاع إلخ من قول النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أو من قول أبي هريرة وفي الفتح لم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة وهم عشرة ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه ، والحديث دليل على مشروعية إطالة الغرة والتحجيل ، واختلف العلماء في القدر المستحب من ذلك ، فقيل في اليدين إلى المنكب وفي الرجلين إلى الركبة. وقد ثبت هذا عن أبي هريرة رواية ورأيا وثبت من فعل ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة وأبو عبيد بإسناد حسن ، وقيل إلى نصف العضد والساق ، والغرة في الوجه أن يغسل إلى صفحتي العنق.
والقول بعدم مشروعيتهما وتأويل حديث أبي هريرة بأن المراد به المداومة على الوضوء خلاف الظاهر ورد بأن الراوي أعرف بما روى ، كيف وقد رفع معناه ولا وجه لنفيه. وقد استدل على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة بهذا الحديث وبحديث مسلم مرفوعا سيما ليست لأحد غيركم والسيما بكسر السين المهملة العلامة ، ورد هذا بأنه قد ثبت الوضوء لمن قبل هذه الأمة ، قيل فالذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وظهوره وفي شأنه كله. متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يعجبه التيمن أي تقديم الأيمن في تنعله لبس نعله وترجله بالجيم أي مشط شعره وطهوره وفي شأنه كله تعميم بعد التخصيص متفق عليه
قال ابن دقيق العيد هو عام مخصوص يعني قوله كله بدخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما فإنه يبدأ فيهما باليسار. قيل والتأكيد بكله يدل على بقاء التعميم ودفع التجوز عن البعض فيحتمل أن يقال حقيقة الشأن ما كان فعلا مقصودا وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة بل هي إما تروك وإما غير مقصودة ، والحديث دليل على استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن في الترجل والغسل والحلق وبالميامن في الوضوء والغسل والأكل والشرب وغير ذلك. قال النووي قاعدة الشرع المستمرة البداءة باليمين مع كل ما كان من باب التكريم والتزيين ، وما كان بضدها استحب فيه التياسر ويأتي الحديث في الوضوء قريبا وهذه الدلالة للحديث مبنية على أن لفظ يعجبه يدل على استحباب ذلك شرعا وقد ذكرنا تحقيقه في حواشي شرح العمدة عند الكلام على هذا الحديث.
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا توضأتم فابدأوا بميامنكم أخرجه الأربعة وصححه ابن خزيمة
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا توضأتم فابدأوا بميامنكم أخرجه الأربعة وصححه ابن خزيمة
وأخرجه أحمد وابن حبان والبيهقي وزاد فيه وإذا لبستم قال ابن دقيق العيد هو حقيق بأن يصحح ، الحديث دليل على البداءة بالميامن عند الوضوء في غسل اليدين والرجلين وأما غيرهما كالوجه والرأس فظاهر أيضا شمولهما إلا أنه لم يقل أحد به فيهما ولا ورد في أحاديث التعليم بخلاف اليدين والرجلين فأحاديث التعليم وردت بتقديم اليمنى فيهما على اليسرى في حديث عثمان الذي مضى وغيره ، والآية مجملة بينتها السنة واختلف في وجوب ذلك ولا كلام في أنه الأولى ، فعند الهادوية يجب لحديث الكتاب وهو بلفظ الأمر وهو للوجوب في أصله وباستمرار فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له فإنه ما روي أنه توضأ مرة واحدة بخلافه إلا ما يأتي من حديث ابن عباس ولأنه فعله بيانا للواجب فيجب.
ولحديث ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي هريرة أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ على الولاء ثم قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به وله طرق يشد بعضها بعضا. وقالت الحنفية وجماعة لا يجب الترتيب بين أعضاء الوضوء ولا بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين. قالوا الواو في الاية لا تقتضي الترتيب وبأنه قد روى عن علي عليه السلام أنه بدأ بمياسره وبأنه قال ما أبالي بشمالي بدأت أم بيميني إذا أتممت الوضوء.
وأجيب عنه بأنهما أثران غير ثابتين فلا تقوم بهما حجة ولا يقاومان ما سلف وإن كان الدارقطني قد أخرج حديث علي ولم يضعفه وأخرجه من طرق بألفاظ لكنها موقوفة كلها.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ ، فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين أخرجه مسلم.
وعن المغيرة بضم الميم فغين معجمة مكسورة فياء وراء ، يكنى أبا عبد الله أو أبا عيسى أسلم عام الخندق وقدم مهاجرا وأول مشاهده الحديبية ، وفاته سنة خمسين من الهجرة بالكوفة وكان عاملا عليها من قبل معاوية ، وهو ابن شعبة بضم الشين المعجمة وسكون العين المهملة فموحدة مفتوحة أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ فمسح بناصيته في القاموس الناصية والناصاة قصاص الشعر وعلى العمامة والخفين تثنية خف بالخاء المعجمة مضمومة أي ومسح عليهما أخرجه مسلم ولم يخرجه البخاري ووهم من نسبه إليهما ، والحديث دليل على عدم جواز الاقتصار على مسح الناصية وقال زيد بن علي عليه السلام وأبو حنيفة يجوز الاقتصار ، وقال ابن القيم ولم يصح عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه ألبتة لكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة كما في حديث المغيرة هذا ، وقد ذكر الدارقطني أنه رواه عن ستين رجلا ، وأما الاقتصار على العمامة بالمسح فلم يقل به الجمهور ، وقال ابن القيم إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يمسح على رأسه وعلى العمامة تارة وعلى الناصية والعمامة تارة والمسح على الخفين يأتي له باب مستقل ويأتي حديث المسح على العصائب
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صفة حج النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ابدءوا بما بدأ الله به أخرجه النسائي هكذا بلفظ الأمر وهو عند مسلم بلفظ الخبر
وعن جابر هو أبو عبد الله جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بالحاء والراء المهملتين الأنصاري السلمي من مشاهير الصحابة ذكر البخاري أنه شهد بدرا وكان ينقل الماء يومئذ ، ثم شهد بعدها مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثماني عشرة غزوة ذكر ذلك الحاكم أبو أحمد وشهد صفين مع علي عليه السلام وكان من المكثرين الحفاظ وكف بصره في اخر عمره وتوفي سنة أربع أو سبع وسبعين بالمدينة وعمره أربع وتسعون سنة وهو اخر من مات بالمدينة من الصحابة (في صفة حج النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) يشير إلى حديث جليل شريف سيأتي إن شاء الله تعالى في الحج قال أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ابدءوا بما بدأ الله به أخرجه النسائي هكذا بلفظ الأمر وهو عند مسلم بلفظ الخبر أي بلفظ نبدأ ولفظ الحديث قال ثم خرج أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من الباب أي باب الحرم إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ إن لصفا ولمروة من شعآئر لله فمن حج لبيت أو عتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن لله شاكر عليم. نبدأ بما بدأ الله به بلفظ الخبر فعلا مضارعا فبدأ بالصفا لبداءة الله به في الآية
وذكر المصنف هذه القطعة من حديث جابر هنا لأنه أفاد أن ما بدأ الله به ذكرا نبتدىء به فعلا فإن كلامه كلام حكيم لا يبدأ ذكرا إلا بما يستحق البداءة به فعلا فإنه مقتضى البلاغة ولذا قال سيبويه إنهم أي العرب يقدمون ما هم بشأنه أهم وهم به أعنى فإن اللفظ عام والعام لا يقتصر على سببه أعني بما بدأ الله به لأن كلمة ما موصولة والموصولات من ألفاظ العموم وآية الوضوء وهي قوله تعالى فاغسلوا وجوهم وأيديكم الى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين داخله تحت الأمر بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ابدءوا بما بدأ الله به فيجب البداءة بغسل الوجه ثم ما بعده على الترتيب وإن كانت الآية لم نفد تقديم اليمنى على اليسرى من اليعدين والرجلين وتقدم القول فيه قريبا وذهبت الحنفية وآخرون إلى أن الترتيب بين أعضاء الوضوء غير واجب واستدل لهم بحديث ابن عباس أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ غسل وجهه ويديه ثم رجليه ثم مسح رأسه بفضل وضوئه وأجيب بأنه لا تعرف له طريق صحيحة حتى يتم به الاستدلال ثم لا يخفى أنه كان الأولى تقديم حديث جابر هذا على حديث المغيرة وجعله متصلا بحديث أبي هريرة لتقاربهما في الدلالة.
وعنه رضى الله عنه قال كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه اخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف.
وعنه أي جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه اخرجه الدارقطني هو الحافظ الكبير الإمام العديم النظير في حفظه قال الذهبي في حقه هو حافظ الزمان أبو الحسين على بن عمر ابن أحمد البغدادي الحافظ الشهير صاحب السنن مولده سنة ست وثلاثمائة سمع من عوالم وبرع في هذا الشأن قال الحاكم صار الداقطني أوحد عصره في الفظ والفهم والورع وأماما في القراءة والنحو وله مصنفات يطول ذكرها وأشهد أنه لم يخلق على أديم الأرض مثله وقال الخطيب كان فريد عصره وإمام وقته وانتهى إليه علم الأثر والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال مع الصدق والثقة وصحة الاعتقاد وقد أطال أئمة الحديث الثناء على هذا الرجل وكانت وفاته في ثامن ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلثمائة بإسناد ضعيف وأخرجه البيهقي أيضا بإسناد الدارقطني وفي الإسنادين معا القاسم بن محمد بن عقيل وهو متروك وضعه أحمد وابن معين وغيرهما وعده ابن حبان في الثقات لكن الجارح أولى وإن كثر المعدل وهنا الجارج أكثر وصرح بضعف الحديث جماعة من الحفاظ كالمذري وابن الصلاح والنووي وغيرهم قال المصنف ويغنى عنه حديث أبي هريرة عند مسلم أنه توضأ حتى أشرع في العضد وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسمل توضأ قلت ولو أتى به هنا لكان أولى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه بإسناد ضعيف.
و للترمذي عن سعيد بن زيد ، و أبي سعيد نحوه ، قال أحمد لا يثبت شئ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه بإسناد ضعيف هذا قطعة من الحديث الذي أخرجه المذكورون فإنهم أخرجوه بلفظ لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه والحديث مروى من طريق يعقوب بن سلمة عن أبيه عن أبي هريرة وهو يعقوب بن سلمة الليثي قال البخاري لا يعرف له سماع من أبيه ولا لأبيه من أبي هريرة وله طرق أخرى عند الدارقطني والبيهقي ولكنها كلها ضعيفة أيضا وعند الطبراني من حديث أبي هريرة بلفظ الأمر إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله فإن حفظتك لا تزال تكتب لك الحسنات حتى تحدث من ذلك الوضوء ولكن سنده واه.
وللترمذي لم يقل والترمذي عن سعيد بن زيد وزيد هو ابن عمرة بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة صحابي جليل القدر لأنه لم يروه في السنن بل رواه في العلل فغاير المصنف في العبارة لهذه الإشارة ولأنه لم يروه عن أبي هريرة وأبي سعيد نحوه وقال أحمد لا يثبت فيه شيء وأخرجه البزار وأحمد وابن ماجه والدارقطني وغيرهم قال الترمذي قال محمد يعنى البخاري إنه أحسن شيء في هذا الكتاب لكنه ضعيف لأن في رواته مجهولين ورواية أبي سعيد الخدري التي أخرجها الترمذي وغيره من رواية كثير بن زيد عن ربيح عن عبد الرحمن عن أبي سعيد ولكنه قدح في كثير بن زيد وفي ربيح أيضا وقد روى الحديث في التسمية من حديث عائشة وسهل بن سعد وابن سبرة وأم سبرة وعلى وأنس وفي الجميع مقال إلا أن هذه الروايات يقوى بعضها بعضا فلا تخلوا عن قوة ولذا قال ابن أبي شيبة ثبت لنا أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قاله وإذا عرفت هذا فالحديث قد دل على مشروعية التسمية في الوضوء وظاهر قوله لا وضوء أنه لا يصح ولا يوجد من دونها إذ الأصل في النفي الحقيقة وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب الهادوية إلى أنه فرض على الذاكر وقال أحمد بن حنبل والظاهرية بل وعلى الناسى وفي أحد قولي الهادي إنها سنة وإليه ذهبت الحنفية والشافعية لحديث أبي هريرة من ذكر الله أول وضوئه طهر جسده كله وإذا لم يذكر اسم الله لم يطهر منه إلا موضع الوضوء أخرجه الدارقطني وغيره وهو ضعيف وبه استدل من فرق بين الذاكر والناسى قائلا إن الأول في حق العامد وهذا في حق الناسى وحديث أبي هريرة هذا الأخير وإن كان ضعيفا فقد عضده في الدلالة على عدم الفرضية حديث توضأ كما أمرك الله وقد تقدم وهو الدليل على تأويل النفي في حديث الباب بأن المراد لا وضوء كامل على أنه قد روى هذا الحديث بلفظ لا وضوء كامل إلا أنه قال المصنف لم يروه بهذا اللفظ قاله البيهقي في السنن بعد إخراجه هذا أيضا ضعيف أبو بكر الداهرى يريد أحد رواته أنه غير ثقة عند أهل العلم بالحديث وأما القول بأن هذا مثبت ودال على الإيجاب فيرجح ففيه أنه لم يثبت ثبوتا يقضى بالإيجاب بل طرقه كما عرفت وقد دل على السنية حديث كل أمر ذي بال فيتعاضد هو وحديث الباب على مطلق الشرعية وأقلها الندبية.
وعن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يفصل بين المضمضة والاستنشاق. أخرجه أبو داود ، بإسناد ضعيف.
وعن طلحة هو أبو محمد أو أبو عبد الله طلحة بن مصرف بضم الميم وفتح الصاد المهملة وكسر الراء المشددة وفاء وطلحة أحد الأعلام الأثبات من التابعين مات سنة ثنتي عشرة ومائة عن أبيه مصرف عن جده كعب بن عمرة الهمداني ومنهم من يقول ابن عمر بضم العين والمهملة قال ابن عبد البر والأشهر ابن عمر وله صحبة ومنهم من ينكرها ولا وجه لإنكار من أنكر ذلك ثم ذكر هذا الحديث قال رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يفصل بين المضمضة والاستنشاق أخرجه أبو داود بإسناد ضعيف لأنه من رواية ليث بن أبي سليم وهو ضعيف قال النووي اتفق العلماء على ضعفه ولأن مصرفا والد طلحة مجهول الحال قال أبو داود وسمعت أحمد يقول زعموا أن ابن عيينة كان ينكره يقول إيش هذا طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده والحديث دليل على الفصل بين المضمضة والاستنشاق بأن يؤخذا لكل واحد ماء جديد وقد دل له أيضا حديث على عليه السلام وعثمان أنهما أفرادا المضمضة والاستنشاق ثم قالا هكذا رأينا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ أخرجه أبو على بن السكن في صحاحه وذهب إلى هذا جماعة وذهبت الهاودية إلى أن السنة الجمع بينهما بغرفة لم أخرجه ابن ماجه من حديث علي عليه السلام أنه تمضمض فاستنشق ثلاثا من كف واحدة وأخرجه أبو داود والجمع بينهما ورد من حديث على من ست طرق وتأتي إحداها قريبا وكذلك من حديث عثمان عند أبي داود وغيره وفي لفظ لابن حبان ثلاث مرات من ثلاث حفنات وفي لفظ للبخارى ثلاث مرات غرفة واحدة ومع ورود الروايتين الجمع وعدمه فالأقرب التخيير وأن الكل سنة وإن كانت رواية الجمع أكثر وأصح وقد اختار في الشرح التخيير وقال إنه قول الإمام يحيى واعلم أن الجمع قد يكون بغرفة واحدة وبثلاث منها كما أرشد إليه ظاهر قوله في الحديث من كف واحد ومن غرفة واحده وقد يكون الجمع بثلاث غرفات لكل واحدة من الثلاث المرات غرفة كما هو صريح ثلاث مرات من ثلاث حفنات قال البيهقي في السنن بعد ذكره الحديث يعني والله أعلم أنه تمضمض واستنثر كل مرة من غرفة واحدة ثم فعل ذلك ثلاثا من ثلاث غرفات قال ويدل له حديث عبد الله بن زيد ثم ساقه بسنده وفيه ثم أدخل يده في الإناء
فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث مرات من ثلاث غرفات من ماء ثم قال رواه البخاري في الصحيح وبه يتضح أنه يتعين هذا الاحتمال.
وعن علي رضي الله عنه في صفة الوضوء ثم تمضمض صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم واستنثر ثلاثا يمضمض وينثر من الكف الدي يأخذ منه الماء أخرجه أبو داود والنسائي
وعن علي رضي الله عنه في صفة الوضوء ثم تمضمض صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم واستنثر ثلاثا يمضمض وينثر من الكف الدي يأخذ منه الماء أخرجه أبو داود والنسائي ، هذا من أدلة الجمع ويحتمل أنه من غرفة واحدة أو من ثلاث غرفات
وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه في صفة الوضوء أو وضوئه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثم أدخل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يده أي في الماء فمضمض واستنشق من كف واحد ، يفعل ذلك ثلاثاً. متفق عليه.
وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه في صفة الوضوء أو وضوئه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثم أدخل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يده أي في الماء فمضمض واستنشق لم يذكر الاستنثار لأن المراد إنما هو ذكر اكتفائه بكف واحدة من الماء لما يدخل في الفم والأنف وأما دفع الماء فليس من مقصود الحديث من كف واحدة الكف يذكر ويؤنث يفعل ذلك ثلاثا متفق عليه هو ظاهر أنه كفاه كف واحد للثلاث المرات وإن كان يحتمل أنه أراد به فعل كل منهما من كف واحد يغترف في كل واحدة من الثلاث والحديث كالأول من أدلة الجمع وهذا الحديث والأول مقتطعان من الحديثين الطويلين في صفة الوضوء وقد تقدم مثل هذا إلا أن المصنف إنما يقتصر على موضع الحجة الذي يريده كالجمع هنا.
وعن أنس رضي الله عنه قال رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رجلا وفي قدمه مثل الظفر لم يصبه الماء ، فقال ارجع فأحسن وضوءك. أخرجه أبو داود والنسائي
وعن أنس رضي الله عنه قال رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رجلا وفي قدمه مثل الظفر بضم الظاء المعجمة والفاء
فيه لغات أخر أجودها ما ذكر وجمعه أظفار وجمع الجمع أظافير لم يصبه الماء أي ماء وضوئه فقال له ارجع فأحسن وضوءك أخرجه أبو داود والنسائي
وقد أخرج مثله مسلم من حديث جابر عن عمر إلا أنه قيل إنه موقوف على عمر ، وقد أخرج أبو داود من طريق خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدميه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يعيد الوضوء والصلاة ، قال أحمد بن حنبل لما سئل عن إسناده جيد نعم ، هو دليل على وجوب استيعاب أعضاء الوضوء بالماء نصا في الرجل وقياسا في غيرها. وقد ثبت حديث ويل للأعقاب من النار قاله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في جماعة لم يمس أعقابهم الماء وإلى هذا ذهب الجمهور، وروى عن أبي حنيفة قال إنه يعفى عن نصف العضو أو ربعه أو أقل من الدرهم روايات حكيت عنه.
وقد استدل بالحديث أيضا على وجوب الموالاة حيث أمره أن يعيد الوضوء ولم يقتصر على أمره بغسل ما تركه قيل ولا دليل فيه لأنه أراد التشديد عليه في الإنكار والإشارة إلى أن من ترك شيئا فكأنه ترك الكل ولا يخفى ضعف هذا القول فالأحسن أن يقال إن قول الراوي أمره أن يعيد الوضوء أي غسل ما تركه وسماه إعادة باعتبار ظن المتوضىء فإنه صلى ظانا بأنه قد توضأ وضوءا مجزئا وسماه وضوءا في قوله يعيد الوضوء لأنه وضوء لغة ، وفي الحديث دليل على أن الجاهل والناسي حكمهما في الترك حكم العامد.
وعنه رضي الله عنه قال كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد
متفق عليه.
وعنه أي أنس بن مالك قال كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يتوضأ بالمد تقدم تحقيق قدره ويغتسل بالصاع وهو أربعة أمداد ولذا قال إلى خمسة أمداد كأنه قال بأربعة أمداد إلى خمسة متفق عليه
وتقدم أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ بثلثي مد وقدمنا أنه أقل ما قدر به ماء وضوئه ولو أخر المصنف ذلك الحديث إلى هنا أو قدم هذا لكان أوفق لحسن الترتيب.
ظاهر هذا الحديث أن هذا غاية ما كان ينتهي إليه وضوءه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وغسله ولا ينافيه حديث عائشة الذي أخرجه البخاري أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ من إناء واحد يقال له الفرق بفتح الفاء والراء وهو إناء يسع تسعة عشر رطلا لأنه ليس في حديثها أنه كان ملآنا ماء بل قولها من إناء يدل على تبعيض ما توضأ منه.
وحديث أنس هذا والحديث الذي سلف عن عبد الله بن زيد يرشدان إلى تقليل ماء الوضوء والاكتفاء باليسير منه
وقد قال البخاري وكره أهل العلم فيه أي ماء الوضوء أن يتجاوز فعل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
وعن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء أخرجه مسلم والترمذي وزاد اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين.
وعن عمر بضم العين المهملة منقول من جمع عمرة وهو أبو حفص عمر بن الخطاب القرشي يجتمع مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في كعب بن لؤي أسلم سنة ست من النبوة وقيل سنة خمس بعد أربعين رجلا ، وشهد المشاهد كلها مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وله مشاهد في الإسلام وفتوحات في العراق والشام ، وتوفي في غرة المحرم سنة أربع وعشرين طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة وخلافته عشر سنين ونصف. قال قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء تقدم أنه إتمامه ثم يقول بعد إتمامه أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية هو من باب ونفخ في الصور عبر عن الآتي بالماضي لتحقق وقوعه والمراد تفتح له يوم القيامة يدخل من أيها شاء أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي وزاد اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، جمع بينهما إلماما بقوله تعالى ويسألونك عن لمحيض قل هو أذى فعتزلوا لنسآء في لمحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم لله إن لله يحب لتوابين ويحب لمتطهرين. ولما كانت التوبة طهارة الباطن من أدران الذنوب والوضوء طهارة الظاهر عن الأحداث المانعة عن التقرب إليه تعالى ناسب الجمع بينهما أي طلب ذلك من الله تعالى غاية المناسبة في طلب أن يكون السائل محبوبا لله وفي زمرة المحبوبين له. وهذه الرواية وإن قال الترمذي بعد إخراجه الحديث في إسناده اضطراب فصدر الحديث ثابت في مسلم وهذه الزيادة قد رواها البزار والطبراني في الأوسط من طريق ثوبان بلفظ من دعا بوضوء فتوضأ فساعة فرغ من وضوئه يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ورواه ابن ماجه من حديث أنس وابن السني في عمل اليوم والليلة والحاكم في المستدرك من حديث أبي سعيد بلفظ من توضأ فقال سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك كتب في رق ثم طبع بطابع فلا يكسر إلى يوم القيامة وصحح النسائي أنه موقوف وهذا الذكر عقيب الوضوء. قال النووي قال أصحابنا ويستحب أيضا عقيب الغسل.
وإلى هنا انتهى باب الوضوء ولم يذكر المصنف من الأذكار فيه إلا حديث التسمية في أوله وهذا الذكر في اخره. وأما حديث الذكر مع غسل كل عضو فلم يذكره للاتفاق على ضعفه ، قال النووي الأدعية في أثناء الوضوء لا أصل لها ولم يذكرها المتقدمون ، وقال ابن الصلاح لم يصح فيه حديث.
هذا ولا يخفى حسن ختم المصنف باب الوضوء بهذا الدعاء الذي يقال عند تمام الوضوء فعلا فقاله عند تمام أدلته تأليفا وعقب الوضوء بالمسح على الخفين لأنه من أحكام الوضوء فقال:
باب المسح على الخفين
أي باب ذكر أدلة شرعية ذلك. والخف: نعل من أدم يغطي الكعبين. والجرموق: خف كبير يلبس فوق خف صغير. والجورب فوق الجرموق يغطي الكعبين بعض التغطية دون النعل، وهي تكون دون الكعاب.
عن المُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ رضي الله عنه قالَ: كُنْتُ مَع النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فَتَوَضَّأَ، فَأَهْوَيْتُ لأنْزِعَ خُفّيْهِ، فَقَالَ: "دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ" فمَسَحَ عَلَيْهِمَا، متفقٌ عليه.وللأربعة عنه إلاّ النسائي: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسح أعلى الخفَّ وأسفلهُ. وفي إسناده ضعفٌ.
(عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي: في سفر، كما صرح به البخاري. وعند مالك وأبي داود تعيين السفر: أنه في غزوة تبوك، وتعيين الصلاة: أنها صلاة الفجر (فتوضأ) أي أخذ في الوضوء، كما صرحت به الأحاديث، ففي لفظ: "تمضمض واستنشق ثلاث مرات" وفي أخرى: فمسح برأسه، فالمراد بقوله: توضأ أخذ فيه، لا أنه استكمله، كما هو ظاهر اللفظ (فأهويت) أي مددت يدي، أو قصدت الهوى من القيام إلى القعود (لأنزع خفيه) كأنه لم يكن قد علم برخصة المسح، أو علمها وظن أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سيفعل الأفضل، بناء على أن الغسل أفضل، ويأتي فيه الخلاف، أو جوز أنه لم يحصل شرط المسح، وهذا الأخير أقرب لقوله: (فقال: دعهما) أي الخفين (فإني أدخلتُهما طاهرَتين) حال من القدمين، كما تبينه رواية أبي داود: "فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان" (فمسح عليهما. متفق عليه) بين الشيخين. ولفظه هنا للبخاري. وذكر البزار: أنه روى عن المغيرة من ستين طريقاً، وذكر منها ابن منده: خمسة وأربعين طريقاً.
والحديث دليل على جواز المسح على الخفين في السفر، لأن هذا الحديث ظاهر فيه كما عرفت. وأما في الحضر، فيأتي الكلام عليه في الحديث الثالث.
وقد اختلف العلماء في جواز ذلك، فالأكثر على جوازه سفراً؛ لهذا الحديث وحضراً لغيره من الأحاديث. قال أحمد بن حنبل: فيه أربعون حديثاً عن الصحابة مرفوعة. وقال ابن أبي حاتم: فيه عن أحد وأربعين صحابياً، وقال ابن عبد البر في الاستذكار: روى عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المسح على الخفين نحو من أربعين من الصحابة.
ونقل ابن المنذر عن الحسن البصري قال: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنه كان يمسح على الخفين. وذكر أبو القاسم بن منده: أسماء من رواه من تذكرته فبلغوا ثمانين صحابياً. والقول بالمسح: قول أمير المؤمنين علي عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص، وبلال، وحذيفة، وبريدة، وخزيمة بن ثابت، وسلمان، وجرير البجلي، وغيرهم.
قال ابن المبارك: ليس في المسح على الخفين بين الصحابة اختلاف؛ لأن كل من روى عنه إنكاره، فقد روى عنه إثباته.
وقال ابن عبد البر: لا أعلم أنه روى عن أحد من السلف إنكاره، إلا عن مالك، مع أن الرواية الصحيحة عنه مصرحة بإثباته.
قال المصنف: قد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح متواتر، وقال به أبو حنيفة، والشافعي، وغيرهما مستدلين بما سمعت.
وروى عن الهادوية والإمامية والخوارج: القول بعدم جوازه، واستدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ،قالوا: فعينت الآية مباشرة الرجلين بالماء، واستدلوا أيضاً: بما سلف في باب الوضوء من أحاديث التعليم، وكلها عينت غسل الرجلين. قالوا: والأحاديث التي ذكرتم في المسح منسوخة باية المائدة؛ والدليل على النسخ قول علي عليه السلام: سبق الكتاب الخفين. وقول[اث] ابن عباس[/اث]: ما مسح رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد المائدة.
وأجيب: أولاً: بأن اية الوضوء نزلت في غزوة المريسيع، ومسحه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في غزوة تبوك، كما عرفت، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر.
وثانياً: بأنه لو سلم تأخر اية المائدة، فلا منافاة بين المسح والاية؛ لأن قوله تعالى: "وأرجلكم". مطلق، وقيدته أحاديث المسح على الخف، أو عام وخصصته تلك الأحاديث.
وأما ما روي عن علي عليه السلام، فهو حديث منقطع، وكذا ما روي عن ابن عباس، مع أنه يخالف ما ثبت عنهما من القول بالمسح.
وقد عارض حديثهما ما هو أصح منهما، وهو حديث جرير البجلي؛ فإنه لما روى: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يمسح على خفيه، قيل له: هل كان ذلك قبل المائدة أو بعدها؟ قال: وهل أسلمت إلا بعد المائدة؟ وهو حديث صحيح.
وأما أحاديث التعليم، فليس فيها ما ينافي جواز المسح على الخفين: فإنها كلها فيمن ليس عليه خفان. فأي دلالة على نفي ذلك، على أنه قد يقال: قد ثبت في اية المائدة القراءة بالجر لأرجلكم عطفاً على الممسوح وهو الرأس، فيحمل على مسح الخفين، كما بينته السنة، ويتم ثبوت المسح بالسنة والكتاب، وهو أحسن الوجوه التي توجه به قراءة الجر.
إذا عرفت هذا فللمسح عند القائلين به شرطان: الأول: ما أشار إليه الحديث، وهو لبس الخفين مع كمال طهارة القدمين؛ وذلك بأن يلبسهما وهو على طهارة تامة، بأن يتوضأ حتى يكمل وضوءه ثم يلبسهما، فإذا أحدث بعد ذلك حدثاً أصغر، جاز المسح عليهما، بناء على أنه أريد بطاهرتين الطهارة الكاملة، وقد قيل: بل يحتمل أنهما طاهرتان عن النجاسة، يروى عن داود، ويأتي من الأحاديث ما يقوي القول الأول.
والثاني مستفاد من مسمى الخف، فإن المراد به الكامل؛ لأنه المتبادر عند الإطلاق، وذلك بأن يكون ساتراً قوياً مانعاً نفوذ الماء غير مخرق، فلا يمسح على ما لا يستر العقبين، ولا على مخرق يبدو منه محل الفرض، ولا على منسوج؛ إذ لا يمنع نفوذ الماء، ولا مغصوب لوجوب نزعه.
هذا وحديث المغيرة لم يبين كيفية المسح، ولا كميته، ولا محله، ولكن الذي أفاده قول المصنف.
وللأربعة عَنْهُ إلا النّسائي: أنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسَحَ أعْلى الْخُفِّ وأسْفَلَهُ. وفي إسناده ضَعْفٌ.
بيّن أن محل المسح أعلى الخف وأسفله، ويأتي من ذهب إليه، ولكنه قد أشار إلى ضعفه، وبيّن وجه ضعفه في التلخيص، وأن أئمة الحديث ضعفوه بكاتب المغيرة هذا.
وكذلك بين محل المسح وعارض حديث المغيرة هذا.
وعن عليٍّ رضي الله عنه أنّهُ قال: لَوْ كان الدِّينُ بالرأي لكان أسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلاهُ، وقَدَ رَأَيْتُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَمْسَحُ على ظاهِرِ خُفّيْهِ، أخرجه أبو داود بإسنادٍ حَسَنٍ.
قوله: (وعن علي عليه السلام، أنه قال: ــــ لو كانَ الدِّين بالرأي) أي بالقياس وملاحظة المعاني (لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه) أي ما تحت القدمين أولى بالمسح من الذي هو على أعلاهما؛ لأنه الذي يباشر المشي، ويقع على ما ينبغي إزالته، بخلاف أعلاه، وهو ما على ظهر القدم (وقد رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَمْسَحُ على ظاهرِ خفيه، أخرجه أبو داود بإسناد حسن) وقال المصنف في التلخيص: إنه حديث صحيح.
والحديث فيه إبانة لمحل المسح على الخفين، وأنه ظاهرهما، لا غير، ولا يمسح أسفلهما.
وللعلماء في ذلك قولان: أحدهما أن يغمس يديه في الماء، ثم يضع باطن كفه اليسرى تحت عقب الخف، وكفه اليمنى على أطراف أصابعه، ثم يمر اليمنى إلى ساقه، واليسرى إلى أطراف أصابعه. وهذا للشافعي. واستدل لهذه الكيفية بما ورد في حديث المغيرة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة، كأني أنظر أصابعه على الخفين" رواه البيهقي، وهو منقطع، على أنه لا يفي بتلك الصفة.
وثانيهما: مسح أعلى الخف دون أسفله، وهي التي أفادها حديث علي عليه السلام هذا.
وأما القدر المجزىء من ذلك: فقيل: لا يجزىء إلا قدر ثلاث أصابع، وقيل: ولو بأصبع، وقيل: لا يجزىء إلا إذا مسح أكثره، وحديث علي، وحديث المغيرة المذكوران في الأصل ليس فيهما تعرض لذلك. نعم قد روى عن علي عليه السلام: أنه رأى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يمسح على ظهر الخف خطوطاً بالأصابع. قال النووي: إنه حديث ضعيف. وروى عن جابر: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أرى بعض من علمه المسح، أن يمسح بيده من مقدم الخفين إلى أصل الساق مرة، وفرج بين أصابعه". قال المصنف: إسناده ضعيف جداً. فعرفت أنه لم يرد في الكيفية، ولا الكمية حديث يعتمد عليه إلا حديث علي في بيان المسح. والظاهر أنه إذا فعل المكلف ما يسمى مسحاً على الخف لغة أجزأه. وأما مقدار زمان جواز المسح فقد أفاده الحديث.
وعن صَفْوانَ بن عَسّالٍ قالَ: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يأمُرُنا إذا كنّا سَفْراً "أنْ لا نَنْزَعَ خِفَافَنَا ثَلاَثَةَ أيّامٍ ولَيَالِيَهُنَّ، إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، ولَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وبَوْلٍ ونَوْمٍ" أخرجه النسائيُّ والترمذيُّ، واللفْظُ لَهُ، وابنُ خُزيمةَ وصححاهُ.
(وعن صفوان) بفتح الصاد المهملة وسكون الفاء (بن عسال) بفتح المهملة وتشديد السين المهملة وباللام المرادي سكن الكوفة (قال: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يأمُرُنا إذا كنّا سَفْراً) جمع سافر كتجر جمع تاجر (ألا ننزَع خفافَنا ثلاثةَ أيام ولياليهن إلا من جنابة) أي فننزعها ولو قبل مرور الثلاث (ولكن) لا ننزعهن (من غائط وبول ونوم) أي لأجل هذه الأحداث إلا إذا مرت المدة المقدرة (أخرجه النسائي، والترمذي، واللفظ له، وابن خزيمة، وصححاه) أي الترمذي، وابن خزيمة، ورواه الشافعي، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، وقال الترمذي عن البخاري: إنه حديث حسن. بل قال البخاري: ليس في التوقيت شيء أصح من حديث صفوان بن عسال المرادي، وصححه الترمذي، والخطابي.
والحديث دليل على توقيت إباحة المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وفيه دلالة على اختصاصه بالوضوء دون الغسل وهو مجمع عليه. وظاهر قوله: "يأمرنا" الوجوب، ولكن الإجماع صرفه عن ظاهره فبقي للإباحة والندب.
وقد اختلف العلماء: هل الأفضل المسح على الخفين، أو خلعهما وغسل القدمين. قال المصنف عن ابن المنذر: والذي اختاره أن المسح أفضل. وقال النووي: صرح أصحابنا: بأن الغسل أفضل، بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن السنة، كما قالوا في تفضيل القصر على الإتمام.
وعن عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه قالَ: جَعَل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثلاثَةَ أيّامٍ ولَيَالِيَهُنَّ للمُسَافِرِ، ويَوْماً ولَيْلَةً للمُقِيم ــــ يعْني في المسْح على الخُفَّيْنِ ــــ أخرجه مسلمٌ.
(وعن علي عليه السلام قال: جعل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثلاثة أيام وليَاليَهُنَّ للمُسافر ويوماً للمُقيم يعني في المسح على الخفين) هذا مدرج من كلام علي، أو من غيره من الرواة (أخرجه مسلم) ، وكذلك أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن حبان.
والحديث دليل على توقيت المسح على الخفين للمسافر، كما سلف في الحديث قبله، ودليل على مشروعية المسح للمقيم أيضاً، وعلى تقدير زمان إباحته بيوم وليلة للمقيم. وإنما زاد في المدة للمسافر؛ لأنه أحق بالرخصة من المقيم؛ لمشقة السفر.
وعن ثَوْبَانَ رضي الله عنه قالَ: بَعَثَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سَرِيَّةً، فأمَرهُمْ أنْ يَمسَحُوا على الْعَصَائِبِ ــــ يعني العَمَائِمِ ــــ والتّساخِين يعْني الخِفَاف. روَاهُ أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكِمُ.
(وعن ثوبان) بفتح المثلثة تثنية ثوب، وهو أبو عبد الله، أو أبو عبد الرحمن. قال ابن عبد البر: والأول أصح. ابن بجدد بضم الموحدة وسكون الجيم وضم الدال المهملة الأولى. وقيل: ابن جحدر بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة فدال مهملة فراء، وهو من أهل السراة موضع بين مكة والمدينة، وقيل: من حمير أصابه سبي، فشراه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فأعتقه، ولم يزل ملازماً لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سفراً وحضراً، إلى أن توفي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فنزل الشام، ثم انتقل إلى حمص، فتوفي بها سنة أربع وخمسين.
(قال: بعث رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سرية، فأمرهُم أنْ يَمْسَحُوا على العَصَائب، يعني العَمائم) سميت عصابة لأنه يعصب بها الرأس (والتساخين) بفتح المثناة بعدها سين مهملة وبعد الألف خاء معجمة فمثناة تحتية فنون جمع تسخان. قال في القاموس: التساخين: المراجل الخفاف، وفسرها الراوي بقوله: (يعني الخفاف) جمع خف. والظاهر أنه وما قبله في قوله: يعني العمائم مدرج في الحديث من كلام الراوي (رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم).
ظاهر الحديث: أنه يجوز المسح على العمائم كالمسح على الخفين، وهل يشترط فيها الطهارة للرأس، والتوقيت كالخفين؟ لم نجد فيه كلاماً للعلماء، ثم رأيت بعد ذلك في حواشي القاضي عبد الرحمن على بلوغ المرام: أنه يشترط في جواز المسح على العمائم أن يعتم الماسح بعد كمال الطهارة، كما يفعل الماسح على الخف. وقال: وذهب إلى المسح على العمائم بعض العلماء، ولم يذكر لما ادعاه دليلاً. وظاهره أيضاً أنه لا يشترط للمسح عليها عذر، وأنه يجزىء مسحها، وإن لم يمس الرأس ماء أصلاً.
وقال ابن القيم: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسح على العمامة فقط، ومسح على الناصية، وكمل على العمامة، وقيل: لا يكون ذلك إلا للعذر؛ لأن في الحديث عند أبي داود: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعث سرية فأصابهم البرد. فلما قدموا على رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين"، فيحمل ذلك على العذر، وفي هذا الحمل بعد، وإن جنح إلى القول به في الشرح؛ لأنه قد ثبت المسح على الخفين، والعمامة من غير عذر في غير هذا.
وعن عُمَرَ رضي الله عنه ــــ مَوْقُوفاً ــــ وعن أنسٍ ــــ مَرْفوعاً ــــ: "إذا تَوَضَّأَ أحَدُكمْ فلبس خُفّيْهِ فَلْيَمْسَحْ عليْهِمَا، ولْيُصَلِّ فِيهِمَا، ولا يَخْلَعْهُمَا إنْ شاء إلا مِنَ الجَنَابَةِ" أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه.
(وعن عمر موقوفاً) الموقوف: هو ما كان من كلام الصحابي، ولم ينسبه إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (وعن أنس مرفوعاً) إليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (إذا توضأ أحدكم فلبس خُفّيْه فلْيَمْسَحْ عليهما) تقييد اللبس، والمسح ببعد الوضوء: دليل: على أنه أريد بطاهرتين في حديث المغيرة، وما في معناه: الطهارة المحققة من الحدث الأصغر (وليصل فيهما ولا يخلعها إن شاء) قيدهما بالمشيئة: دفعاً لما يفيده ظاهر الأمر من الوجوب، وظاهر النهي من التحريم (إلا من جنابة) فقد عرفت أنه يجب خلعهما (أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه).
والحديث قد أفاد شرطية الطهارة، وأطلقه عن التوقيت، فهو مقيد به، كما يفيده حديث صفوان، وحديث علي عليه السلام.
وعن أبي بَكْرَةَ رضي الله عنه عن النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنّهُ رَخّص لَلْمُسَافِرِ ثَلاثَةَ أيَامٍ ولَيَاليَهُنَّ، وللمُقيمِ يَوْماً ولَيْلَةً، إذا تَطَهّرَ فَلَبِسَ خُفّيْهِ: أنّ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا. أخرجه الدارقطنيُّ وصححهُ ابنُ خُزَيمَةَ.
(وعن أبي بكرة) بفتح الموحدة وسكون الكاف وراء، اسمه نفيع بضم النون وفتح الفاء وسكون المثناة التحتية اخره عين مهملة، ابن مسروح، وقيل: ابن الحارث، وكان أبو بكرة يقول: إنه مولى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ويأبى أن ينتسب. وكان نزل من حصن الطائف عند حصاره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له في جماعة من غلمان أهل الطائف، وأسلم وأعتقه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وكان من فضلاء الصحابة، قال ابن عبد البر: كان مثل النضر بن عبادة، مات بالبصرة سنة إحدى، أو اثنتين وخمسين وكان أولاده أشرافاً بالبصرة بالعلم والولايات، وله عقب كثير:
(عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنّه رخّص للمُسافر ثلاثةَ أيّام ولَيَاليَهُنّ) أي في المسح على الخفين (وللمُقيم يَوْماً ولَيْلَةً إذا تَطَهّرَ) أي كل من المقيم والمسافر إذا تطهر من الحدث الأصغر (فَلَبِس خُفّيْه) ليس المراد من الفاء التعقيب، بل مجرد العطف؛ لأنه معلوم أنه ليس شرطاً في المسح (أن يمسح عليهما. أخرجه الدارقطني، وصححه ابن خزيمة) ، وصححه الخطابي أيضاً، ونقل البيهقي: أن الشافعي صححه، وأخرجه ابن حبان، وابن الجارود، وابن أبي شيبة، والبيهقي، والترمذي في العلل.
والحديث مثل حديث علي عليه السلام في إفادة مقدار المدة للمسافر والمقيم. ومثل حديث عمر وأنس في شرطية الطهارة، وفيه إبانة أن المسح رخصة لتسمية الصحابي له بذلك.
وعنْ أُبيِّ بن عِمَارَةَ رضيَ الله عنهُ، أنّهُ قالَ: يا رَسُولَ الله أَمْسَحُ على الْخُفّيْنِ؟ قال: "نَعَمْ" قَالَ: يوماً؟ قال: "نَعَمْ" قَال: ويَوْمَيْنِ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قالَ: وَثلاثَةَ أيّامٍ؟ قالَ: "نعم وما شِئْتَ"، أخْرَجَهُ أبو داود، وقالَ: لَيْس بالقَويِّ.
(وعن أبيِّ) بضم الهمزة وتشديد المثناة التحتية (ابن عمارة) بكسر العين المهملة، وهو المشهور وقد تضم. قال المصنف في التقريب: مدني سكن مصر، له صحبة، في إسناد حديثه اضطراب، يريد هذا الحديث، ومثله قال ابن عبد البر في الاستيعاب: (أنه قال: يا رسول الله أمْسَحُ عَلى الخُفّيْن؟ قال: نعم، قال: يوماً؟ قال: نعم، قال: ويومين قال: نعم، قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت. أخرجه أبو داود وقال: ليس بالقوي).
قال الحافظ المنذري في مختصر السنن: وبمعناه: أي بمعنى ما قال أبو داود قال البخاري. وقال الإمام أحمد: رجاله لا يعرفون. وقال الدارقطني: هذا إسناد لا يثبت اهـ.
وقال ابن حبان: لست أعتمد على إسناد خبره. وقال ابن عبد البر: لا يثبت، وليس له إسناد قائم، وبالغ ابن الجوزي، فعدّه في الموضوعات.
وهو دليل على عدم توقيت المسح في حضر ولا سفر، وهو مروي عن مالك، وقديم قولي الشافعي، ولكن الحديث لا يقاوم مفاهيم الأحاديث التي سلفت، ولا يدانيها، ولو ثبت لكان إطلاقه مقيداً بتلك الأحاديث، كما يقيد بشرطية الطهارة التي أفادتها.
هذا وأحاديث باب المسح تسعة وعدَّها في الشرح ثمانية ولا وجه له.
باب نواقض الوضوء
النواقض: جمع ناقض، والنقض في الأصل: حلّ المبرم، ثم استعمل في إبطال الوضوء بما عيّنه الشارع مبطلاً مجازاً، ثم صار حقيقة عرفية. وناقض الوضوء ناقض للتيمم؛ فإنه بدل عنه.
عن أنس بن مَالكٍ قال: "كانَ أصْحَابُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على عَهْدِهِ يَنْتَظرُونَ الْعِشَاءَ حتى تَخْفِقَ رُؤُوسُهُمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ ولا يَتَوَضَّأونَ". أخرجه أبو داود، وصححه الدارقطني، وأصْلهُ في مُسْلم.
(عن أنس بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على عَهْدِه ينتظرون العشاء حتى تخْفقَ) من باب ضرب يضرب: أي: تميل (رُؤوسُهُمْ) أي من النوم (ثم يُصَلُّونَ ولا يَتَوَضأونَ. أخرجه أبو داود، وصححه الدارقطني، وأصله في مسلم) وأخرجه الترمذي، وفيه "يوقظون للصلاة"، وفيه "حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضأون". وحمله جماعة من العلماء على نوم الجالس، ودفع هذا التأويل: بأن في رواية عن أنس: "يضعون جنوبهم" رواها يحيى القطان.
قال ابن دقيق العيد: يحمل على النوم الخفيف.
وردّ: بأنه لا يناسبه ذكر الغطيط، والإيقاظ؛ فإنهما لا يكونان إلا في نوم مستغرق.
وإذا عرفت هذا فالأحاديث قد اشتملت على خفقة الرأس، وعلى الغطيط، وعلى الإيقاظ، وعلى وضع الجنوب، وكلها وصفت بأنهم كانوا لا يتوضأون من ذلك، فاختلف العلماء في ذلك على أقوال ثمانية:
الأول: أنّ النوم ناقض مطلقاً على كل حال، بدليل إطلاقه في حديث صفوان بن عسال الذي سلف في مسح الخفين، وفيه: من بول، أو غائط، أو نوم.
قالوا: فجعل مطلق النوم كالغائط، والبول في النقض، وحديث أنس ــــ بأي عبارة روي ــــ ليس في بيان أنه قرّرهم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك، ولا راهم، فهو فعل صحابي لا يدري كيف وقع، والحجة إنما هي في أفعاله، وأقواله، وتقريراته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
القول الثاني: أنه لا ينقض مطلقاً؛ لما سلف من حديث أنس، وحكاية نوم الصحابة على تلك الصفات، ولو كان ناقضاً لما أقرّهم الله عليه، وأوحى إلى رسوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في ذلك، كما أوحي إليه في شأن نجاسة نعله، وبالأولى صحة صلاة من خلفه، ولكنه يردّ عليهم بحديث صفوان بن عسال.
القول الثالث: أن النوم ناقض كلّه، إنما يعفى عن خفقتين ولو توالتا، وعن الخفقات المتفرقات، وهو مذهب الهادوية، والخفقة: هي ميلان الرأس من النعاس، وحدّ الخفقة أن لا يستقر رأسه من الميل حتى يستيقظ، ومَنْ لم يمل رأسه عفي له عن قدر خفقة، وهي ميل الرأس فقط حتى يصل ذقنه صدره، قياساً على نوم الخفقة، ويحملون أحاديث أنس على النعاس الذي لا يزول معه التمييز. ولا يخفى بعده.
القول الرابع: أنّ النوم ليس بناقض بنفسه بل هو مظنة للنقض لا غير، فإذا نام جالساً ممكناً مقعدته من الأرض لم ينتقض، وإلا انتقض، وهو مذهب الشافعي، واستدل بحديث علي عليه السلام: "العين وكاء السَّه فمن نام فليتوضأ" حسنه الترمذي، إلا أن فيه مَنْ لا تقوم به حجة، وهو بقية بن الوليد، وقد عنعنه، وحمل أحاديث أنس على من نام ممكناً مقعدته، جمعاً بين الأحاديث، وقيّد حديث صفوان بحديث علي عليه السلام هذا.
الخامس: أنه إذا نام على هيئة من هيئات المصلي راكعاً، أو ساجداً، أو قائماً، فإنه لا ينتقض وضوؤه سواء كان في الصلاة، أو خارجها، فإن نام مضجعاً، أو على قفاه نقض، واستدل له بحديث: "إذا نام العبد في سجوده باهى الله به الملائكة. يقول: عبدي روحه عندي وجسده ساجد بين يدي" رواه البيهقي وغيره، وقد ضعف.
قالوا: فسماه ساجداً وهو نائم، ولا سجود إلا بطهارة.
وأجيب: بأنه سماه باعتبار أول أمره، أو باعتبار هيئته.
السادس: أنه ينتقض إلا نوم الراكع والساجد؛ للحديث الذي سبق، وإن كان خاصاً بالسجود، فقد قاس عليه الركوع، كما قاس الذي قبله سائر هيئات المصلى.
السابع: أنه لا ينقض النوم في الصلاة على أي حال، وينقض خارجها، وحجته الحديث المذكور، لأنه حجة هذه الأقوال الثلاثة.
الثامن: أن كثير النوم ينقض على كل حال، ولا ينقض قليله، وهؤلاء يقولون: إن النوم ليس بناقض بنفسه، بل مظنة النقض، والكثير مظنة، بخلاف القليل، وحملوا أحاديث أنس على القليل، إلا أنهم لم يذكروا قدر القليل، ولا الكثير حتى يعلم كلامهم بحقيقته، وهل هو داخل تحت أحد الأقوال، أم لا؟.
فهذه أقوال العلماء في النوم اختلفت أنظارهم فيه؛ لاختلاف الأحاديث التي ذكرناها. وفي الباب أحاديث لا تخلو عن قدح أعرضنا عنها.
والأقرب القول: بأنّ النوم ناقض لحديث صفوان، وقد عرفت أنه صححه ابن خزيمة، والترمذي، والخطابي، ولكن لفظ النوم في حديثه مطلق ودلالة الاقتران ضعيفة، فلا يقال: قد قرن بالبول والغائط، وهما ناقضان على كل حال. ولما كان مطلق ورود حديث أنس بنوم الصحابة، وأنهم كانوا لا يتوضأون ولو غطوا غطيطاً، وبأنهم كانوا يضعون جنوبهم، وبأنهم كانوا يوقظون، والأصل جلالة قدرهم، وأنهم لا يجهلون ما ينقض الوضوء، سيما وقد حكاه أنس عن الصحابة مطلقاً، ومعلوم أن فيهم العلماء العارفون بأمور الدين خصوصاً الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام، ولاسيما الذين كانوا منهم ينتظرون الصلاة معه صلى الله عليه واله وسلم، فإنهم أعيان الصحابة، وإذا كانوا كذلك فيقيد مطلق حديث صفوان بالنوم المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك، ويؤول ما ذكره أنس من الغطيط ووضع الجنوب والإيقاظ بعدم الاستغراق، فقد يغطّ من هو في مبادىء نومه قبل استغراقه. ووضع الجَنْب لا يستلزم الاستغراق، فقد كان صلى الله عليه واله وسلم يضع جنبه بعد ركعتي الفجر ولا ينام، فإنه كان يقوم لصلاة الفجر بعد وضع جنبه.
وإن كان قيل: إنه من خصائصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنه لا ينقض نومه وضوءه، فعدم ملازمة النوم لوضع الجنب معلومة، والإيقاظ قد يكون لمن هو في مبادىء النوم، فينبه، لئلا يستغرقه النوم.
هذا وقد ألحق بالنوم الإغماء، والجنون، والسكر بأي مسكر، بجامع زوال العقل. وذكر في الشرح أنهم اتفقوا على أن هذه الأمور ناقضة، فإن صح كان الدليل الإجماع.
وعن عائشة رضي الله عَنْهَا قالتْ: جاءَتْ فاطمةُ بنتُ أبي حُبَيش إلى النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقَالَتْ: يا رسولَ الله، إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فلا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ قالَ: "لا، إنّمَا ذلِكَ عِرْقٌ ولَيْسَ بحَيْضٍ، فإذا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلاةَ، وإذا أَدْبَرَتْ فاغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ ثمَّ صَلِّي" متفق عليه.
وللبخاريِّ: "ثمَّ تَوَضَّأي لِكُلِّ صلاةٍ" وأشار مُسْلمٌ إلى أنهُ حَذَفَها عَمْداً.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنتُ أبي حُبَيْش) حبيش بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون المثناة التحتية فشين معجمة. وفاطمة قرشية أسدية، وهي زوج عبد الله بن جحش (إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقالت: يا رسول الله إني امرأة أُسْتَحاض) من الاستحاضة وهي: جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه (فلا أطْهُرُ أفأدعُ الصلاة؟ قال: لا إنما ذلك) بكسر الكاف خطاب للمؤنث (عرق) بكسر العين المهملة وسكون الراء فقاف، وفي فتح الباري: أن هذا العرق يسمى العاذل بعين مهملة وذال معجمة، ويقال: عاذر: بالراء بدلاً عن اللام، كما في القاموس (وليس بحيض) فإن الحيض يخرج من قعر رحم المرأة، فهو إخبار باختلاف المخرجين، وهو رد لقولها: لا أطهر؛ لأنها اعتقدت أن طهارة الحائض لا تعرف إلا بانقطاع الدم، فكنّت بعدم الطهر عن اتصاله، وكانت قد علمت: أن الحائض لا تصلي، فظنّت أنّ ذلك الحكم مقترن بجريان الدم، فأبان لها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنه ليس بحيض، وأنها طاهرة يلزمها الصلاة (فإذا أقبَلَتْ حَيْضَتُك) بفتح الحاء ويجوز كسرها، والمراد بالإقبال: ابتداء دم الحيض (فدعي الصلاة) يتضمّن: نهي الحائض عن الصلاة، وتحريم ذلك عليها، وفساد صلاتها، وهو إجماع (وإذا أدْبَرَتْ) هو ابتداء انقطاعها (فاغْسلي عنك الدمَ) أي: واغتسلي، وهو مستفاد من أدلة أخرى (ثم صلي. متفق عليه).
الحديث دليل على وقوع الاستحاضة، وعلى أنّ لها حكماً يخالف حكم الحيض، وقد بيّنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أكمل بيان، فإنه أفتاها بأنها لا تدع الصلاة مع جريان الدم، وبأنها تنتظر وقت إقبال حيضها، فتترك الصلاة فيها، وإذا أدبرت غسلت الدم، واغتسلت كما ورد في بعض طرق البخاري: "واغتسلي". وفي بعضها كرواية المصنف هنا: الاقتصار على غسل الدم.
والحاصل: أنه قد ذكر الأمران في الأحاديث الصحيحة غسل الدم، والاغتسال. وإنما بعض الرواة اقتصر على أحد الأمرين، والاخر على الاخر. ثم أمرها بالصلاة بعد ذلك. نعم، وإنما بقي الكلام في معرفتها لإقبال الحيض مع استمرار الدم بماذا يكون؟ فإنه قد أعلم الشارع المستحاضة بأحكام إقبال الحيضة، وإدبارها، فدل على أنها تميز ذلك بعلامة. وللعلماء في ذلك قولان:
أحدهما: أنها تميّز ذلك بالرجوع إلى عادتها، فإقبالها وجود الدم في أول أيام العادة، وإدبارها انقضاء أيام العادة، وورد الردّ إلى أيام العادة في حديث فاطمة في بعض الروايات بلفظ: "دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها"، وسيأتي في باب الحيض تحقيق الكلام على ذلك.
الثاني: ترجع إلى صفة الدم، كما يأتي في حديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش هذه بلفظ: "إن دم الحيض أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الاخر فتوضئي، وصلي، ويأتي في باب الحيض إن شاء الله تعالى، فيكون إقبال الحيض إقبال الصفة، وإدباره إدبارها، ويأتي أيضاً الأمر بالرد إلى عادة النساء، ويأتي تحقيق ذلك جميعاً، ويأتي بيان اختلاف العلماء، وأن كلا ذهب إلى القول بالعمل بعلامة من العلامات.
(وللبخاري) أي: من حديث عائشة هذا زيادة: (ثم توضئي لكُلّ صلاة، وأشار مسلم إلى أنه حذفها عمداً) فإنه قال في صحيحه بعد سياق الحديث: وفي حديث حماد حرف تركنا ذكره. قال البيهقي: هو قوله: "توضئي"؛ لأنها زيادة غير محفوظة، وأنه تفرد بها بعض الرواة عن غيره ممن روى الحديث. وقد قرر المصنف في الفتح: أنها ثابتة من طرق ينتفي معها تفرد من قاله مسلم.
واعلم أن المصنف ساق حديث المستحاضة في باب النواقض، وليس المناسب للباب إلا هذه الزيادة، لا أصل الحديث، فإنه من أحكام باب الاستحاضة والحيض، وسيعيده هنالك، فهذه الزيادة هي الحجة على أنّ دم الاستحاضة حدث، من جملة الأحداث، ناقض للوضوء، ولهذا أمر الشارع بالوضوء منه لكل صلاة؛ لأنه إنما رفع الوضوء حكمه لأجل الصلاة، فإذا فرغت من الصلاة نقض وضوؤها، وهذا قول الجمهور: أنها تتوضأ لكل صلاة.
وذهبت الهادوية والحنفية: إلى أنها تتوضأ لوقت كل صلاة، وأن الوضوء متعلق بالوقت، وأنها تصلي به الفريضة الحاضرة، وما شاءت من النوافل، وتجمع بين الفريضتين على وجه الجواز عند من: يجيز ذلك، أو لعذر، وقالوا: الحديث فيه مضاف مقدر وهو: لوقت كل صلاة فهو من مجاز الحذف؛ ولكنه لا بدّ من قرينة توجب التقدير؛ وقد تكلف في الشرح: إلى ذكر ما لعله يقال: إنه قرينة للحذف، وضعفه.
وذهبت المالكية: إلى أنه يستحب الوضوء ولا يجب إلاّ لحدث اخر.
وسيأتي تحقيق ما في ذلك في حديث حمنة بنت جحش في باب الحيض إن شاء الله تعالى، وتأتي أحكام المستحاضة التي تجوز لها، وتفارق بها الحائض هنالك فهو محل الكلام عليها، وفي الشرح سرده هناك، وأما هنا فما ذكر حديثهما إلا باعتبار نقض الاستحاضة للوضوء.
وعن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنهُ قال: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فأمَرْتُ المِقْدَادَ أنْ يَسْأَلَ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فسَأَلَهُ، فقَالَ: "فيهِ الْوُضُوءُ" متفقٌ عليهِ، واللفظ للبخاري.
(وعن علي عليه السلام قال: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً) بزنة ضراب صيغة مبالغة من المذي بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء، وفيه لغات، وهو ماء أبيض لزج رقيق يخرج عند الملاعبة، أو تذكر الجماع، أو إرادته، يقال: مذى زيد يمذي، مثل: مضى يمضي، وأمذى يمذي، مثل: أعطى يعطي (فأَمَرْتُ المقْدَادَ) وهو ابن الأسود الكندي (أنْ يسألَ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي: عما يجب على مَنْ أمذى، فسأله (فقال: فيه الوُضُوءُ. متفق عليه واللفظ للبخاري).
وفي بعض ألفاظه عند البخاري بعد هذا: "فاستحييت أن أسأل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
"وفي لفظ: "لمكان ابنته مني" وفي لفظ لمسلم: "لمكان فاطمة".
ووقع عند أبي داود، والنسائي، وابن خزيمة عن علي عليه السلام بلفظ: "كنت رجلاً مذاءً فجعلت أغتسل منه في الشتاء حتى تشقق ظهري". وزاد في لفظ للبخاري فقال: "توضأ واغسل ذكرك"، وفي مسلم: "اغسل ذكرك وتوضأ"، وقد وقع اختلاف في السائل هل هو المقداد كما في هذه الرواية، أو عمار كما في رواية أخرى؟ وفي رواية أخرى: أن علياً رضي الله عنه هو السائل.
وجمع ابن حبان بين ذلك: بأن علياً عليه السلام أمر المقداد أن يسأل، ثم سأل بنفسه، إلا أنه تعقب: بأن قوله: فاستحييت أن أسأل لمكان ابنته مني: دالّ على أنه رضي الله عنه لم يباشر السؤال، فنسبة السؤال إليه في رواية مَنْ قال: إنّ علياً سأل: مجاز؛ لكونه الامر بالسؤال.
والحديث دليل على أنّ المذي ينقض الوضوء، ولأجله ذكره المصنف في هذا الباب، ودليل على أنه لا يوجب غسلاً، وهو إجماع، ورواية "توضأ واغسل ذكرك" لا تقتضي تقديم الوضوء؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، ولأن لفظ رواية مسلم تبين المراد، وأما إطلاق لفظ (ذكرك) فهو ظاهر في غسل الذكر كله، وليس كذلك، إذ الواجب غسل محل الخارج، وإنما هو من إطلاق اسم الكل على البعض، والقرينة ما علم من قواعد الشرع.
وذهب البعض إلى أنه يغسله كله عملاً بلفظ الحديث، وأيده رواية أبي داود: "يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ"، وعنده أيضاً: "فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ للصلاة" إلا أنّ رواية غسل الأنثيين قد طعن فيها، وأوضحناه في حواشي ضوء النهار، وذلك أنها من رواية عروة، عن علي، وعروة لم يسمع من علي، إلا أنه رواه أبو عوانة في صحيحه من طريق عبيدة، عن علي بالزيادة. قال المصنف في التلخيص: وإسناده لا مطعن فيه، فمع صحتها فلا عذر عن القول بها.
وقيل: الحكمة فيه: أنه إذا غسله كله تقلص فبطل خروج المذي، واستدل بالحديث عن نجاسة المذي.
وعن عائشة: أنَّ النَّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَبّل بَعْضَ نِسائِهِ، ثمَّ خَرَجَ إلى الصَّلاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأ أخرجهُ أحمد، وضعّفهُ البُخاريُّ.
وعن عائشة: أنَّ النَّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَبّل بَعْضَ نِسائِهِ، ثمَّ خَرَجَ إلى الصَّلاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأ. أخرجهُ أحمد، وضعّفهُ البُخاريُّ.
وأخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث، وأبو داود أخرجه من طريق إبراهيم التيمي عن عائشة، ولم يسمع منها شيئاً، فهو مرسل. وقال النسائي: ليس في هذا الباب حديث أحسن منه، ولكنه مرسل. قال المصنف: روى من عشرة أوجه عن عائشة، أوردها البيهقي في الخلافيات وضعّفها. وقال ابن حزم: لا يصح في هذا الباب شيء، وإن صح فهو محمول على ما كان عليه الأمر قبل نزول الوضوء من اللمس.
إذا عرفت هذا، فالحديث دليل على أن لمس المرأة، وتقبيلها لا ينقض الوضوء، وهذا هو الأصل، والحديث مقرر للأصل، وعليه الهادوية جميعاً، ومن الصحابة علي عليه السلام.
وذهبت الشافعية: إلى أنّ لمس من لا يحرم نكاحها ناقض للوضوء مستدلين بقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى  بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً}. فلزم الوضوء من اللمس. قالوا: واللمس حقيقة في اليد، ويؤيد بقاءه على معناه قراءة: "أو لمستم النساء". فإنها ظاهرة في مجرد لمس الرجل من دون أن يكون من المرأة فعل، وهذا يحقّق بقاء اللفظ على معناه الحقيقي، فقراءة: "أو لامستم النساء" كذلك، إذ الأصل اتفاق معنى القراءتين.
وأجيب عن ذلك: بصرف النظر عن معناه الحقيقي للقرينة فيحمل على المجاز، وهو هنا: حمل الملامسة على الجماع، واللمس كذلك، والقرينة حديث عائشة المذكور، وهو وإن قدح فيه بما سمعت، فطرقه يقوي بعضها بعضاً. وحديث عائشة في البخاري: "في أنها كانت تعترض في قبلته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فإذا قام يصلي غمزها فقبضت رجليها ــــ أي عند سجوده ــــ وإذا قام بسطتهما"، فإنه يؤيد حديث الكتاب المذكور، ويؤيد بقاء الأصل، ويدل على أنه ليس اللمس بناقض. وأما اعتذار المصنف في فتح الباري عن حديثها هذا: بأنه يحتمل أنه كان بحائل أو أنه خاص به، فإنه بعيد مخالف للظاهر.
وقد فسر علي عليه السلام الملامسة بالجماع. وفسرها حبر الأمة ابن عباس بذلك، وهو المدعو له بأن يعلمه الله التأويل، فأخرج عنه عبد بن حميد أنه فسر الملامسة بعد أن وضع أصبعيه في أذنيه: ألا وهو النيك، وأخرج عنه الطستي أنه سأله نافع بن الأزرق عن الملامسة، ففسرها بالجماع، مع أن تركيب الاية الشريفة وأسلوبها يقتضي أن المراد بالملامسة الجماع؛ فإنه تعالى عدّ من مقتضيات التيمم المجيء من الغائط تنبيهاً على الحدث الأصغر، وعدّ الملامسة تنبيهاً على الحدث الأكبر، وهو مقابل لقوله تعالى في الأمر بالغسل بالماء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـ كِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. ولو حملت الملامسة على اللمس الناقض للوضوء لفات التنبيه على أن التراب يقوم مقام الماء في رفعه للحدث الأكبر، وخالف صدر الاية.
وللحنفية تفاصيل لا ينهض عليها دليل.
وعن أبي هرَيْرَةَ رضيَ الله عنهُ قالَ: قَالَ رسولُ الله: "إذا وَجَدَ أَحَدُكُمْ في بطنِهِ شيئاً، فأشكل عليه: أَخَرَجَ مِنْهُ شيءٌ، أمْ لا؟ فَلا يخْرُجَنَّ مِنَ المَسْجِدِ حتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أوْ يَجِدَ ريحاً" أخرجه مُسْلم.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً، فأشكلَ عليْهِ أخرَجَ منهُ شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد) إذا كان فيه لإعادة الوضوء (حتى يسمع صوتاً) للخارج (أو يجد ريحاً) له (أخرجه مسلم) وليس السمع، أو وجدان الريح شرطاً في ذلك، بل المراد حصول اليقين.
وهذا الحديث الجليل أصل من أصول الإسلام، وقاعدة جليلة من قواعد الفقه، وهو أنه دل على أنّ الأشياء يحكم ببقائها على أصولها، حتى يتيقن خلاف ذلك. وأنه لا أثر للشك الطارىء عقبها، فمن حصل له ظن، أو شك بأنه أحدث وهو على يقين من طهارته، لم يضرّه ذلك حتى يحصل له اليقين، كما أفاده قوله: "حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً"، فإنه علّقه بحصول ما يحسّه، وذكرهما تمثيل، وإلا فكذلك سائر النواقض كالمذي والودي.
ويأتي حديث ابن عباس: "إن الشيطان يأتي أحدكم، فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه أنه أحدث، ولم يحدث، فلا ينصرفن حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً" والحديث عام لمن كان في الصلاة، أو خارجها، وهو قول الجماهير. وللمالكية تفاصيل وفروق بين مَنْ كان داخل الصلاة، أو خارجها، لا ينتهض عليها دليل.
وعن طَلْقِ بن عليٍّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَجُلٌ مَسَسْتُ ذَكَرِي، أَوْ قَال: الرَّجُلُ يَمَسُّ ذَكَرَهُ في الصلاة، أَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ؟
فَقَالَ النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا، إنّما هُوَ بَضْعَةٌ مِنْك" أخرجهُ الخمسَةُ، وصحّحهُ ابنُ حِبّانَ، وقالَ ابنُ المَديني: هوَ أحْسَنُ مِنْ حديث بُسْرَة.
(وعن طلق) بفتح الطاء وسكون اللام (بن عليِّ) اليمامي الحنفي. قال ابن عبدالبر: إنه من أهل اليمامة (قال: قال رجل: مسست ذكري، أو قال: الرجل يمس ذكره في الصلاة أعليه وضوء؟ فقال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: لا) ، أي: لا وضوء عليه (إنما هو) أي: الذكر (بَضْعَةٌ) بفتح الموحدة وسكون الضاد المعجمة (منْكَ) أي: كاليد والرجل ونحوهما، وقد علم أنه لا وضوء من مس البضعة منه (أخرجه الخمسة وصححه ابن حبان).
(وقال ابن المديني) بفتح الميم فدال مهملة فمثناة تحتية فنون نسبة إلى جده، وإلا فهو علي بن عبد الله المديني. قال الذهبي: هو حافظ العصر وقدوة أهل هذا الشأن، أبو الحسن علي بن عبد الله صاحب التصانيف، ولد سنة إحدى وستين ومائة. من تلاميذه البخاري، وأبو داود، وقال ابن مهدي: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. قال النسائي: كأن علي بن المديني خلق لهذا الشأن قال العلامة محيي الدين النووي: لابن المديني نحو مائة مصنف: (هو أحسن من حديث بُسْرة) بضم الموحدة وسكون السين المهملة فراء، ويأتي حديثها قريباً، وهذا الحديث رواه، أحمد والدارقطني. وقال الطحاوي: إسناده مستقيم غير مضطرب؛ وصححه الطبراني، وابن حزم، وضعّفه الشافعي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والدارقطني، والبيهقي، وابن الجوزي.
والحديث دليل على ما هو الأصل من عدم نقض مس الذكر للوضوء، وهو مروي عن علي عليه السلام، وعن الهادوية، والحنفية.
وذهب: إلى أنّ مسه ينقض الوضوء جماعة من الصحابة، والتابعين، ومن أئمة المذاهب أحمد، والشافعي مستدلين بقوله.
وعن بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوانَ رضي الله عنها: أنَّ رسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ" أخرجه الخَمْسَةُ، وصَحّحهُ التِّرمِذيُّ وابن حِبّانَ، وقالَ البُخاريُّ: هُوَ أصَحُّ شيءٍ في هذا الْبَابِ.
(وعن بسرة) تقدم ضبط لفظها، وهي (بنت صفوان) بن نوفل القرشية الأسدية، كانت من المبايعات له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، روى عنها عبد الله بن عمر، وغيره: (أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: مَنْ مَسَّ ذَكرهُ فليتوضأ. أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي، وابن حبان، وقال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب) ، وأخرجه أيضاً الشافعي، وأحمد، وابن خزيمة، والحاكم، وابن الجارود. وقال الدارقطني: صحيح ثابت. وصححه يحيى بن معين، والبيهقي، والحازمي.
والقدح فيه: بأنه رواه عروة عن مروان، أو عن رجل مجهول: غير صحيح، فقد ثبت: أن عروة سمعه من بسرة من غير واسطة، كما جزم به ابن خزيمة، وغيره من أئمة الحديث.
وكذلك القدح فيه: بأن هشام بن عروة الراوي له عن أبيه لم يسمعه من أبيه: غير صحيح؛ فقد ثبت: أنه سمعه من أبيه، فاندفع القدح وصح الحديث. وبه استدل مَنْ سمعت من الصحابة، والتابعين، وأحمد، والشافعي: على نقض مس الذكر للوضوء، والمراد مسه من غير حائل؛ لأنه أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه، ليس دونها حجاب ولا ستر، فقد وجب عليه الوضوء" وصححه الحاكم، وابن عبد البر. قال ابن السكن: هو أجود ما روي في هذا الباب.
وزعمت الشافعية أن الإفضاء لا يكون إلا بباطن الكف، وأنه لا نقض إذا مس الذكر بظاهر كفه. وردّ عليهم المحققون بأن الإفضاء لغة: الوصول: أعمّ من أن يكون بباطن الكف، أو ظهرها. قال ابن حزم: لا دليل على ما قالوه لا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قول صاحب، ولا قياس، ولا رأي صحيح.
وأيدت أحاديث بسرة أحاديث أخر، عن سبعة عشر صحابياً مخرجة في كتب الحديث، ومنهم طلق بن علي راوي حديث عدم النقض، وتأول مَنْ ذكر حديثه في عدم النقض. بأنه كان في أول الأمر؛ فإنه قدم في أول الهجرة قبل عمارته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسجده، فحديثه منسوخ بحديث بسرة؛ فإنها متأخرة في الإسلام.
وأحسن من القول بالنسخ القول بالترجيح؛ فإن حديث بسرة أرجح؛ لكثرة من صححه من الأئمة، ولكثرة شواهده؛ ولأن بسرة حدثت به في دار المهاجرين والأنصار، وهم متوافرون، ولم يدفعه أحد، بل علمنا أن بعضهم صار إليه، وصار إليه عروة عن روايتها، فإنه رجع إلى قولها، وكان قبل ذلك يدفعه، وكان ابن عمر يحدث به عنها، ولم يزل يتوضأ من مس الذكر إلى أن مات.
قال البيهقي: يكفي في ترجيح حديث بسرة على حديث طلق بن علي: أنه لم يخرجه صاحبا الصحيح، ولم يحتج بأحد من رواته، وقد احتج بجميع رواة حديث بسرة، ثم إن حديث طلق من رواية قيس بن طلق.
قال الشافعي: قد سألنا عن قيس بن طلق فلم نجد من يعرفه، فما يكون لنا قبول خبره.
وقال أبو حاتم، وأبو زرعة: قيس بن طلق ليس فيمن تقوم به حجة، ووهياه.
وأما مالك، فلما تعارض الحديثان قال بالوضوء من مس الذكر ندباً لا وجوباً.
وعن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "من أصابَهُ قَيءٌ أَوْ رُعَافٌ، أَوْ قَلَسٌ، أَوْ مَذْيٌ فَلْينْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأ، ثمَّ ليَبْنِ على صلاتِهِ، وهُوَ في ذلك لا يَتَكَلّمُ". أَخْرَجَهُ ابن مَاجَهُ، وَضَعّفَهُ أَحْمَدُ وغيرُهُ.
وعن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ أصابَهُ قيءٌ أو رُعافٌ أو قلْسٌ) بفتح القاف وسكون اللام وفتحها وسين مهملة، (أو مَذْيٌ) أي من أصابه ذلك في صلاته (فلينْصَرفْ) منها (فلْيَتَوَضَّأ، ثم ليبْن على صلاته وهو في ذلك) أي: في حال انصرافه، ووضوئه (لا يتكلم. أخرجه ابن ماجه وضعفه أحمد، وغيره") وحاصل ما ضعفوه به: رفعه إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم غلط، والصحيح أنه مرسل. قال أحمد والبيهقي: المرسل الصواب.
فمن يقول: إنَّ المرسل حجة قال: ينقض ما ذكر فيه.
والنقض بالقيء مذهب الهادوية، والحنفية، وشرطت الهادوية أن يكون من المعدة؛ إذ لا يسمى قيئاً إلا ما كان منها، وأن يكون ملء الفم دفعة؛ لورود ما يقيد المطلق هنا، وهو "قيء ذارع ودسعة ــــ دفعة ــــ تملأ الفم" كما في حديث عمار، وإن كان قد ضعف.
وعند زيد بن علي أنه ينقض مطلقاً عملاً بمطلق هذا الحديث، وكأنه لم يثبت عنده حديث عمار.
وذهب جماعة من أهل البيت، والشافعي، ومالك إلى أن القيء غير ناقض؛ لعدم ثبوت حديث عائشة هذا مرفوعاً، والأصل عدم النقض، فلا يخرج عنه إلا بدليل قوي.
وأما الرعاف ففي نقضه الخلاف أيضاً، فمن قال بنقضه فهو عمل بهذا الحديث، ومن قال بعدم نقضه فإنه عمل بالأصل، ولم يرفع هذا الحديث.
وأما الدم الخارج من أي موضع من البدن من غير السبيلين، فيأتي الكلام عليه في حديث أنس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم احتجم، وصلى، ولم يتوضأ".
وأما القلس وهو ما خرج من الحلق ملء الفم، أو دونه وليس بقيء، فإن عاد فهو القيء، فالأكثر على أنه غير ناقض؛ لعدم نهوض الدليل، فلا يخرج من الأصل.
وأما المذي فتقدم الكلام عليه، وأنه ناقض إجماعاً.
وأما ما أفاده الحديث من البناء على الصلاة بعد الخروج منها، وإعادة الوضوء حيث لم يتكلم ففيه خلاف، فروى عن زيد بن علي، والحنفية، ومالك، وقديم قولي الشافعي أنه يبنى، ولا تفسد صلاته بشرط ألا يفعل مفسداً، كما أشار إليه الحديث بقوله: "لا يتكلم".
وقالت الهادوية، و الناصر، و الشافعي في اخر قوليه: إن الحدث يفسد الصلاة؛ لما سيأتي من حديث طلق بن علي: "إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف، وليتوضأ، وليعد الصلاة" رواه أبو داود ويأتي الكلام عليه.
وعن جابر بن سَمُرةَ رضي الله عنه أنَّ رجُلاً سألَ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قالَ: "إنْ شِئْتَ" قالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإبل؟ قالَ: "نَعَمْ" أخرجه مسلمٌ.
(وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه) بفتح السين المهملة وضم الميم فراء، أبو عبد الله، وأبو خالد، جابر بن سمرة العامري، نزل الكوفة، ومات بها سنة أربع وسبعين، وقيل: ست وستين: (أن رجلاً سأل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أتوضأ من لحوم الغنم؟) أي: من أكلها (قال إن شئْتَ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قالَ: نعَمْ أخرجه مسلم) ، وروى نحوه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم من حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "توضأوا من لحوم الإبل ولا توضأوا من لحوم الغنم".
قال ابن خزيمة: لم أر خلافاً بين علماء الحديث: أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه.
والحديثان دليلان على نقض لحوم الإبل للوضوء، وأنَّ مَنْ أكلها انتقض وضوؤه.
وقال بهذا أحمد،، و إسحاق،، و ابن المنذر،، و ابن خزيمة، واختاره البيهقي، وحكاه عن أصحاب الحديث مطلقاً. وحكي عن الشافعي أنه قال: إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به. قال البيهقي: قد صح فيه حديثان حديث جابر، وحديث البراء.
وذهب إلى خلافة جماعة من الصحابة، والتابعين، والهادوية، ويروى عن الشافعي، وأبي حنيفة. قالوا: والحديثان إما منسوخان بحديث: "إنه كان اخر الأمرين منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عدم الوضوء مما مست النار" أخرجه الأربعة، وابن حبان من حديث جابر.
قال النووي: دعوى النسخ باطلة؛ لأن هذا الأخير عام وذلك خاص؛ والخاص مقدم على العام. وكلامه هذا مبني على تقديم الخاص على العام مطلقاً، تقدّم الخاص أو تأخّر، وهي مسألة خلافية في الأصول بين الأصوليين، أو أن المراد بالوضوء التنظيف، وهو غسل اليد؛ لأجل الزهومة، كما جاء في الوضوء من اللبن، وأن له دسماً، والوارد في اللبن التمضمص من شربه. وذهب البعض إلى أنّ الأمر في الوضوء من لحوم الإبل للاستحباب، لا للإيجاب، وهو خلاف ظاهر الأمر.
أما لحوم الغنم فلا نقض بأكلها بالاتفاق. كذا قيل، ولكن حكى في شرح السنة: وجوب الوضوء مما مست النار.
وعن[اث] عمر بن عبد العزيز[/اث]: أنه كان يتوضأ من أكل السكر.
قلت: وفي الحديث مأخذ لتجديد الوضوء على الوضوء؛ فإنه حكم بعدم نقض الأكل من لحوم الغنم، وأجاز له الوضوء، وهو تجديد الوضوء على الوضوء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ غَسّلَ مَيِّتاً فَلْيَغْتَسِلَ. ومَنْ حَمَلهُ فَلْيَتَوضَأ" أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسّنهُ، وقالَ أحمدُ: لا يَصحُّ في هذا البابِ شيءٌ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ غَسّلَ مَيِّتاً فَلْيَغْتَسِلَ. ومَنْ حَمَلهُ فَلْيَتَوضَأ" أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسّنهُ، وقالَ أحمدُ: لا يَصحُّ في هذا البابِ شيءٌ.
وذلك لأنه أخرجه أحمد من طريق فيها ضعيف، ولكنه قد حسّنه الترمذي، وصححه ابن حبان؛ لوروده من طرق ليس فيها ضعف، وذكر الماوردي: أن بعض أصحاب الحديث خرج له مائة وعشرين طريقاً.
وقال أحمد: إنه منسوخ، بما رواه البيهقي عن ابن عباس: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهراً، وليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم"، ولكنه ضعّفه البيهقي، وتعقبه المصنف؛ لأنه قال البيهقي: هذا ضعيف، والحمل فيه على أبي شيبة. قال المصنف: أبو شيبة هو إبراهيم بن أبي بكر بن شيبة، احتج به النسائي، ووثقه الناس، ومن فوقه احتج بهم البخاري إلى أن قال: فالحديث حسن.
ثم قال في الجمع بينه، وبين الأمر في حديث أبي هريرة: إن الأمر للندب.
قلت: وقرينته حديث ابن عباس هذا، وحديث ابن عمر عند عبد الله بن أحمد: "كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل".
قال المصنف: إسناده صحيح، وهو أحسن ما جمع به بين هذه الأحاديث.
وأما قوله: "ومَن حمله فليتوضأ" فلا أعلم قائلاً يقول: بأنه يجب الوضوء من حمل الميت، ولا يندب. قلت: ولكنه مع نهوض الحديث لا عذر عن العمل به. ويفسّر الوضوء بغسل اليدين، كما يفيده التعليل بقوله: "إن ميتكم يموت طاهراً"؛ فإن لمس الطاهر لا يوجب غسل اليدين منه، فيكون في حمل الميت غسل اليدين ندباً تعبداً، إذ المراد إذا حمله مباشراً لبدنه، بقرينة السياق، ولقوله: "يموت طاهراً" فإنه لا يناسب ذلك إلا من يباشر بدنه بالحمل.
وعن عبد الله بن أبي بَكْرٍ ــــ رضيَ الله عنهُ ــــ: أنَّ في الكتابِ الذي كَتَبَهُ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لِعَمْرِو بن حَزْمِ: "أنْ لا يَمسَّ القْرْانَ إلَّا طاهِرٌ". رَوَاهُ مَالكٌ مرسلاً، ووصَلَهُ النّسائيُّ وابن حِبّانَ، وهُو مَعْلُولٌ.
(وعن عبد الله بن أبي بكر) هو ابن أبي بكر الصدق، أمه وأم أسماء واحدة، أسلم قديماً، وشهد مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الطائف، وأصابه سهم انقض عليه بعد سنين فمات منه في شوال سنة إحدى عشرة، وصلى عليه أبوه: (إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لعمرو بن حزم) هو عمرو بن حزم بن زيد الخزرجي النجاري، يكنى أبا الضحاك، أول مشاهدن الخندق، واستعمله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على نجران، وهو ابن سبع عشرة سنة ليفقههم في الدين، ويعلمهم القران، ويأخذ صدقاتهم، وكتب له كتاباً فيه الفرائض، والسنن، والصدقات، والديات. وتوفي عمرو بن حزم في خلافة عمر بالمدينة، ذكر هذا ابن عبد البر في الاستيعاب: (أنْ لا يمَسَّ القُران إلا طاهرٌ رواه مالك مرسلاً، ووصله النسائي، وابن حبان، وهو معلول).
حقيقة المعلول: الحديث الذي يطلع على الوهم فيه بالقرائن، وجمع الطرق فيقال له: معلل ومعلول، والأجود أن يقال فيه المعل: من أعله. والعلة عبارة عن أسباب خفية غامضة طرأت على الحديث، فأثرت فيه، وقدحت. وهو من أغمض أنواع علوم الحديث، وأدقها، ولا يقوم بذلك إلا من رزقه الله فهماً ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد، والمتون.
وإنما قال المصنف: إن هذا الحديث معلول؛ لأن من رواية سليمان بن داود، وهو متفق على تركه، كما قال ابن حزم، ووهم في ذلك؛ فإنه ظن أنه سليمان بن داود اليماني، وليس كذلك بل هو سليمان بن داود الخولاني، وهو ثقة، أثنى عليه أبو زرعة، وأبو حاتم، وعثمان بن سعيد، وجماعة من الحفاظ، واليماني هو المتفق على ضعفه.
وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول. قال ابن عبد البر: إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول. وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتاباً أصح من هذا الكتاب؛ فإن أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، والتابعين يرجعون إليه، ويدَعون رأيهم. قال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز، وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب.
وفي الباب من حديث حكيم بن حزام: "لا يمس القران إلا طاهر"، وإن كان في إسناده مقال، إلا أنه ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث عبد الله بن عمر: أنه قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يمس القرآن إلا طاهر" قال الهيثمي: رجاله موثقون، وذكر له شاهدين، ولكنه يبقي النظر في المراد من الطاهر، فإنه لفظ مشترك يطلق عليه الطاهر من الحدث الأكبر، والطاهر من الحدث الأصغر، ويطلق على المؤمن، وعلى من ليس على بدنه نجاسة، ولا بد لحمله على معين من قرينة، وأما قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}. والمصنف ذكر الحديث لئلا يتوهم أن نواقض الوضوء مانعة من ذكر الله تعالى.
فالأوضح أن الضمير للكتاب المكنون الذي سبق ذكره في صدر الآية وأن "المطهرون" هم الملائكة.
[رح 7] ـ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الله عَلَى كُلَّ أَحْيَانِهِ". رَوَاه مُسْلِمٌ، وَعَلَّقَهُ والْبُخَارِيُّ.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يذكر الله على كل أحيانه" رواه مسلم وعلقه البخاري) ، والحديث مقرر للأصل وهو ذكر الله على كل حال من الأحوال وهو ظاهر في عموم الذكر، فتدخل تلاوة القرآن ولو كان جنباً إلا أنه قد خصصه حديث عليّ عليه السلام الذي في باب الغسل كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً، وأحاديث آخر في معناه تأتي، وكذلك هو مخصص بحالة الغائط والبول والجماع.
والمراد بكل أحيانه معظمها كما قال الله تعالى: {يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم}.
وعن مُعَاويةَ قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الْعَينُ وِكَاءُ السّهِ، فَإذا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ". رواهُ أحمد والطبراني.
وزاد: "ومَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأ"، وهذه الزِّيادَةُ في هذا الحديثِ عِنْدَ أبي داود مِنْ حديث عليَ دُونَ قَوْلِهِ: "اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ"، وفي كِلا الإسنادين ضَعْفٌ.
(وعن معاوية) هو ابن أبي سفيان صخر بن حرب، هو وأبوه من مسلمة الفتح، ومن المؤلفة قلوبهم، ولاه عمر الشام بعد موت يزيد بن أبي سفيان، ولم يزل بها متولياً أربعين سنة، إلى أن مات سنة ستين في شهر رجب بدمشق، وله ثمان وسبعون سنة (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: العين) أراد الجنس، والمراد: العينان من كل إنسان (وكاء) بكسر الواو والمد (السه) بفتح السين المهملة وكسرها هي: الدبر، والوكاء ما تربط به الخريطة، أو نحوها (فإذا نَامَتْ العَيْنَان اسْتطْلَقَ الوكاء) أي: انحل (رواه أحمد، والطبراني، وزاد الطبراني: ومن نام فليتوضأ، وهذه الزيادة في الحديث) وهي قوله: "ومن نام فليتوضأ" (عند أبي داود من حديث علي عليه السلام) ولفظه: "العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ" (دون قوله: استطلق الوكاء، وفي كلا الإسنادين ضعف) إسناد حديث معاوية، وإسناد حديث علي؛ فإن في إسناد حديث معاوية: بقية، عن أبي بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف، وفي حديث علي أيضاً بقية، عن الوضين بن عطاء.
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذين الحديثين فقال: ليسا بقويين. وقال أحمد: حديث علي أثبت من حديث معاوية. وحسّن المنذري، والنووي، وابن الصلاح: حديث علي.
والحديثان يدلان على أن النوم ليس بناقض بنفسه، وإنما هو مظنة النقض، فهما من أدلة القائلين بذلك، ودليل على أنه لا ينقض إلا النوم المستغرق، وتقدم الكلام في ذلك.
وكان الأولى بحسن الترتيب أن يذكر المصنف هذا الحديث عقب حديث أنس في أول باب النواقض كما لا يخفى.
ولأبي داودَ أيْضاً عن ابن عباس رضي الله عنهُمَا مَرْفوعاً: "إنما الوُضُوءُ على مَنْ نَامَ مُضْطَجِعاً" وفي إسنادِهِ ضَعْفٌ أيضاً.
ولأبي داودَ أيْضاً عن ابن عباس رضي الله عنهُمَا مَرْفوعاً: "إنما الوُضُوءُ على مَنْ نَامَ مُضْطَجِعاً" وفي إسنادِهِ ضَعْفٌ أيضاً.
لأنه قال أبو داود: إنه حديث منكر، وبين وجه نكارته، وفيه القصر على أنه لا ينقض إلا نوم المضطجع، لا غير، ولو استغرقه النوم، فالجمع بينه وبين ما مضى من الأحاديث: أنه خرج على الأغلب، فإنّ الأغلب على من أراد النوم الاضطجاع، فلا معارضة.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم احْتَجَمَ وصلى، ولمْ يَتَوَضَّأ، أخرجهُ الدارقطني، ولَيّنَهُ.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم احْتَجَمَ وصلى، ولمْ يَتَوَضَّأ، أخرجهُ الدارقطني، ولَيّنَهُ.
أي: قال: هو لين؛ وذلك لأن في إسناده صالح بن مقاتل، وليس بالقوي، وذكره النووي في فصل الضعيف.
والحديث مقرر للأصل، دليل على أن خروج الدم من البدن غير الفرجين لا ينقض الوضوء. وفي الباب أحاديث تفيد عدم نقضه عن ابن عمر، وابن عباس، وابن أبي أوفى.
وقد اختلف العلماء في ذلك.
الهادوية: على أن ناقض بشرط أنه يكون سائلاً يقطر، أو يكون قدر الشعيرة يسيل في وقت واحد من موضع واحد إلى ما يمكن تطهيره.
وقال زيد بن علي، و الشافعي، و مالك، و الناصر، وجماعة من الصحابة، والتابعين: إن خروج الدم من البدن من غير السبيلين ليس بناقض؛ لحديث أنس هذا؛ وما أيّده من الاثار عمن ذكرناه، ولقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا وضوء إلا من صوت، أو ريح" أخرجه أحمد، والترمذي، وصححه. وأحمد، والطبراني بلفظ: "لا وضوء إلا من ريح، أو سماع"؛ لأن الأصل عدم النقض حتى يقوم ما يرفع الأصل، ولم يقم دليل على ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهُمَا أنَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "يأتي أحدَكُمْ الشّيْطَانُ في صَلاتِهِ، فَيَنْفُخُ في مَقْعَدته فَيُخَيّلُ إليه أنّه أَحْدَثَ، ولم يُحْدِثْ، فإذا وجد ذلك فلا يَنْصَرِفْ حَتى يَسْمَعَ صَوْتاً أو يَجِدَ رِيحاً". أخرجه البَزَّارُ.
وأصْلُهُ في الصَّحيحين مِنْ حديث عبد الله بن زَيْدٍ.
ولمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "يأتي أحدكم الشيطان في صلاته) حال كونه فيها (فيَنْفخ في مقْعَدَته فيُخَيّل إليه) يحتمل أنه مبني للفاعل، وفيه ضمير للشيطان، وأنهُ الذي يخيل: أي يوقع في خيال المصلي أنه أحدث، ويحتمل أنه مبني للمفعول ونائبه (أنّه أحْدَثَ ولم يحْدثْ، فإذا وَجَدَ ذلكَ، فلا يَنْصَرِفْ حتى يسْمَعَ صَوْتاً، أو يَجدَ ريحاً". أخرجه البزار) بفتح الموحدة وتشديد الزاي بعد الألف راء، وهو الحافظ العلامة أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري صاحب المسند الكبير المعلل أخذ عن الطبراني وغيره، وذكره الدارقطني، وأثنى عليه، ولم يذكر الذهبي ولادته، ولا وفاته.
والحديث تقدم ما يفيد معناه، وهو إعلان من الشارع بتسليط الشيطان على العباد حتى في أشرف العبادات ليفسدها عليهم، وأنه لا يضرهم ذلك، ولا يخرجون عن الطهارة إلا بيقين (وأصله في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد).
تقدم حديث أبي هريرة في هذا الباب.
وللحاكِمِ عن أبي سعيد مرفُوعاً: "إذَا جاءَ أحَدَكُمُ الشّيْطانُ، فقالَ: إنك أَحْدَثْتَ. فَلْيَقُلْ: كَذَبْتَ" وأخرجه ابنُ حِبّان بلفظ "فَلْيَقُلْ في نَفْسِهِ".
(وللحاكم عن أبي سعيد) هو الخدري، تقدم (مرفوعاً: إذا جاء أحدكم الشّيْطانُ فقالَ) أي: وسوس له قائلاً (إنّك أحدثْتَ فَلْيَقُل: كَذَبْتَ) يحتمل أنه يقوله لفظاً، أو في نفسه: ولكن قوله: (وأخرجه ابن حبان بلفظ: فليقل في نفسه) بين أن المراد الاخر منه. وقد روى حديث الحاكم بزيادة بعد قوله: كذبت: "إلا من وجد ريحاً، أو سمع صوتاً بأذنه"، وتقدم ما تفيده هذه الأحاديث.
ولو ضم المصنف هذه الروايات إلى حديث أبي هريرة الذي قدمه، وأشار إليه هنا لكان أولى بحسن الترتيب، كما عرفت.
وهذه الأحاديث دالّة على حرص الشيطان على إفساد عبادة بني ادم، خصوصاً الصلاة، وما يتعلق بها، وأنه لا يأتيهم غالباً إلا من باب التشكيك في الطهارة، تارة بالقول، وتارة بالفعل، ومن هنا تعرف أن أهل الوسواس في الطهارات امتثلوا ما فعله، وقاله.
باب آداب قضاء الحاجة
الحاجة كناية عن خروج البول والغائط، وهو مأخوذ من قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا قَعَدَ أحدكُم لحاجته"، ويعبر عنه الفقهاء بباب الاستطابة لحديث: "ولا يستطيب بيمينه"، والمحدثون بباب التخلي مأخوذ من قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا دخل أحدكم الخلاء"، والتبرّز من قوله: "البراز في الموارد"، وكما سيأتي، فالكلّ من العبارات صحيح.
عن أنَسِ بن مالك ــــ رضي الله عنه ــــ قالَ: "كانَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا دَخَلَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ" أخرجه الأربعة. وهوَ مَعْلُولٌ.
(عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذَا دَخَلَ الخَلأَ) بالخاء المعجمة ممدودة المكان الخالي، كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة (وضع خاتَمَهُ. أخرجه الأربعة وهو معلول) ، وذلك لأنه من رواية همام، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس، ورواته ثقات، لكن ابن جريج لم يسمعه من الزهري، بل سمعه من زياد بن سعد، عن الزهري، ولكن بلفظ اخر: "وهو أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اتخذ خاتماً من ورق، ثم ألقاه"، والوهم فيه من همام، كما قاله أبو داود، وهمام ثقة، كما قاله ابن معين. وقال أحمد: ثبت في كل المشايخ، وقد روى الحديث مرفوعاً، وموقوفاً عن أنس من غير طريق همام، وأورد له البيهقي شاهداً، ورواه الحاكم أيضاً بلفظ: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لبس خاتماً نقشه: محمد رسول الله، وكان إذا دخل الخلاء وضعه".
والحديث دليل على الإبعاد عند قضاء الحاجة، كما يرشد إليه لفظ الخلاء؛ فإنه يطلق على المكان الخالي، وعلى المكان المعدّ لقضاء الحاجة، ويأتي في حديث المغيرة ما هو أصرح من هذا بلفظ: "فانطلق حتى توارى"، وعند أبي داود: "وكان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد".
ودليل على تبعيد ما فيه ذكر الله عند قضاء الحاجة. وقال بعضهم: يحرم إدخال المصحف الخلاء لغير ضرورة، وقيل: فلو غفل عن تنحية ما فيه ذكر الله حتى اشتغل بقضاء حاجته غيبه في فيه، أو في عمامته، أو نحوه، وهذا فعل منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقد عرف وجهه، وهو صيانة ما فيه ذكر الله عزّ وجلّ عن المحلات المستخبثة، فدلّ على ندبه، وليس خاصاً بالخاتم، بل في كل ملبوس فيه ذكر الله.
وعنه رضي الله عنه قالَ: "كَانَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذَا دخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: "اللّهُمَّ إني أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ والخَبَائِثِ". أخرجه السّبعةُ.
(وعنه) أي: عن أنس رضي الله عنه (قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا دخل الخلاء: أي: أراد الخلاء) دخوله (قال: اللهُم إني أعوذُ بك من الخُبُث) بضم الخاء المعجمة وضم الموحدة ويجوز إسكانها جمع خبيث (والخبائث) جمع خبيثة يريد بالأول ذكور الشياطين، وبالثاني إناثهم (أخرجه السبعة) ولسعيد بن منصور كان يقول: "بسم الله اللهم" الحديث. قال المصنف في الفتح: ورواه العمري وإسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية، ولم أرها في غيره. وإنما قلنا: إذا أراد دخوله، لقوله: دخل؛ لأنه بعد دخول الخلاء لا يقول ذلك، وقد صرح بما قرره البخاري في الأدب المفرد من حديث أنس قال: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا أراد أن يدخل الخلاء" الحديث. وهذا في الأمكنة المعدة لذلك، بقرينة الدخول، ولذا قال ابن بطال: رواية "إذا أتى" أعم لشمولها.
ويشرع هذا الذكر في غير الأماكن المعدة لقضاء الحاجة، وإن كان الحديث ورد في الحشوش، وأنها تحضرها الشياطين. ويشرع القول بهذا في غير الأماكن المعدة عند إرادة رفع ثيابه، وفيها قبل دخولها، وظاهر حديث أنس أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يجهر بهذا الذكر، فيحسن الجهر به.
وعن أنَسٍ رضي الله عنه قالَ: "كانَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَدْخُلُ الخلاء، فأحملُ أنا وغُلامٌ نحْوي إدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِي بالماء" متفق عليه.
(وعن أنس) كأنه ترك الإضمار فلم يقل: وعنه لبعد الاسم الظاهر، بخلافه في الحديث الثاني، وفي بعض النسخ من بلوغ المرام وعنه بالإضمار أيضاً (قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يدخُلُ الخَلأَ فأحْمل أنا وغلام) الغلام هو المترعرع قيل: إلى حد السبع سنين. وقيل: إلى الالتحاء، ويطلق على غيره مجازاً (نحوي إدَاوَةً) بكسر الهمزة إناء صغير من جلد يتخذ للماء (منْ ماء وعنَزَةً) بفتح العين المهملة وفتح النون فزاي هي عصا طويلة في أسفلها زج، ويقال: رمح قصير (فيستنجي بالماء. متفق عليه) المراد بالخلاء هنا: الفضاء بقرينة العنزة؛ لأنه كان إذا توضأ صلى إليها في الفضاء، أو يستتر بها: بأن يضع عليها ثوباً، أو لغير ذلك من قضاء الحاجات التي تعرض له، ولأن خدمته في البيوت تختص بأهله، والغلام الاخر اختلف فيه، فقيل: ابن مسعود، وأطلق عليه ذلك مجازاً، ويبعده قوله: نحوي، فإن ابن مسعود كان كبيراً، فليس نحو أنس في سنه، ويحتمل أنه أراد نحوي: في كونه كان يخدم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فيصح؛ فإن ابن مسعود كان صاحب سواد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، يحمل نعله، وسواكه، أو لأنه مجاز، كما في الشرح.
وقيل: هو أبو هريرة، وقيل: جابر بن عبد الله.
الحديث دليل على جواز الاستخدام للصغير، وعلى الاستنجاء بالماء.
ونقل عن مالك أنه أنكر استنجاء النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالماء، والأحاديث قد أثبتت ذلك فلا سماع لإنكار مالك.
قيل: وعلى أنه أرجح من الاستنجاء بالحجارة، وكأنه أخذه من زيادة التكلّف بحمل الماء بيد الغلام، ولو كان يساوي الحجارة، أو هي أرجح منه، لما احتاج إلى ذلك.
والجمهور من العلماء على أن الأفضل الجمع بين الحجارة والماء: فإن اقتصر على أحدهما، فالأفضل الماء حيث لم يرد الصلاة، فإن أرادها فخلاف، فمن يقول: تجزىء الحجارة، لا يوجبه، ومن يقول: لا تجزىء، يوجبه.
ومن اداب الاستنجاء بالماء مسح اليد بالتراب بعده كما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا أتى الخلاء أتيت بماء في تور، أو ركوة فاستنجى منه، ثم مسح يده على الأرض".
وأخرج النسائي من حديث جرير، قال: كنت مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فأتى الخلاء، فقضى حاجته ثم قال: "يا جرير هات طهوراً، فأتيته بماء فاستنجى، وقال بيده، فدلك بها الأرض" ويأتي مثله في الغسل.
وعن المُغيرةِ بن شُعْبةَ رضي الله عنهُ قالَ: قالَ لي النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خُذِ الإدَاوَةَ" فانْطَلَقَ حتى تَوَارَى عَنِّي، فقَضى حَاجَتَهُ، متفق عليه.
(وعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: خُذْ الإداوَةَ: فانطلق) أي: النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (حتى توارى عني فقضى حاجته، متفق عليه).
الحديث دليل على التواري عند قضاء الحاجة، ولا يجب؛ إذ الدليل فعل، ولا يقتضي الوجوب، لكنه يجب بأدلة ستر العورات عن الأعين.
وقد ورد الأمر بالاستتار من حديث أبي هريرة عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "من أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فليستدبره؛ فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني ادم، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" فدل على استحباب الاستتار، كما دل على رفع الحرج، ولكن هذا غير التواري عن الناس، بل هو خاص، بقرينة: "فإن الشيطان"، فلو كان في فضاء ليس فيه إنسان، استحبّ له أن يستتر بشيء، ولو بجمع كثيب من رمل.
وعن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنهُ قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اتّقُوا اللَّعَّانَيْنِ: الذي يَتَخَلّى في طريق النّاسِ، أو في ظِلِّهم" رواه مسلم.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: اتّقوا اللَّاعنَيْن) بصيغة التثنية، وفي رواية مسلم قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: (الذي يتخلى في طَريق الناس أوْ في ظلِّهم: رواه مسلم). قال الخطابي: يريد باللاعنين: الأمرين الجالبين للعن الحاملين للناس عليه، والداعيين إليه، وذلك أن من فعلهما لعن وشتم، يعني: أن عادة الناس لعنة، فهو سبب، فانتساب اللعن إليهما من المجاز العقلي؛ قالوا: وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون، فاعل بمعنى مفعول، فهو كذلك من المجاز العقلي. والمراد بالذي يتخلى في طريق الناس: أي: يتغوط فيما يمر به الناس؛ فإنه يؤذيهم بنتنه واستقذاره، ويؤدي إلى لعنه، فإن كان لعنه جائزاً، فقد تسبب إلى الدعاء عليه بإبعاده عن الرحمة، وإن كان غير جائز، فقد تسبب إلى تأثيم غيره بلعنه.
فإن قلت: فأي الأمرين أريد هنا؟
قلت: أخرج الطبراني في الكبير بإسناد حسنه الحافظ المنذري عن حذيفة بن أسيد: أنّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "من اذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم".
وأخرج في الأوسط، والبيهقي، وغيرهما برجال ثقات إلا محمد بن عمرو الأنصاري، وقد وثقه ابن معين من حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "من سل سخيمته على طريق من طرق الناس المسلمين فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين". والسخيمة بالسين المفتوحة المهملة والخاء المعجمة فمثناة تحتية: العذرة. فهذه الأحاديث دالة على استحقاقه اللعنة.والمراد بالظل هنا مستظلّ الناس الذي اتخذوه مقيلاً ومناخاً ينزلونه ويقعدون فيه، إذ ليس كل ظل يحرم القعود لقضاء الحاجة تحته، فقد قعد النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تحت حائش النخل لحاجته، وله ظل بلا شك. قلت: يدل له حديث أحمد: "أو ظل يستظل به".
وزادَ أبو داودَ، عنْ مُعاذ رضي الله عنه: "والمَوَارِدَ" ولَفْظُهُ: "اتّقُوا المَلاعِنَ الثّلاثَةَ: الْبَرَازَ في المَوَارِدِ، وقَارِعَةِ الطريقِ، والظِّلِّ".
(وزاد أبو داود عن معاذ: والموارد، ولفظه: اتّقوا المَلاعن الثّلاثةَ البَرَازَ) بفتح الموحدة فراء مفتوحة اخره زاي، وهو: المتسع من الأرض يكنى به عن الغائط، وبالكسر المبارزة في الحرب (في الموارد) جمع مورد وهو الموضع الذي يأتيه الناس من رأس عين، أو نهر لشرب الماء، أو للتوضىء (وقَارعةِ الطّريق) المراد الطريق الواسع الذي يقرعه الناس بأرجلهم، أي يدقونه ويمرون عليه (والظل) تقدم المراد به.
ولأحْمَدَ عَنِ ابنِ عَبّاسٍ: "أوْ نَقْعِ مَاءٍ" وفيهمَا ضَعْفٌ.
(ولأحمد عن ابن عباس: أوْ نقع ماء) بفتح النون وسكون القاف فعين مهملة. ولفظه بعد قوله: "اتقوا الملاعن الثلاث: أن يقعد أحدكم في ظل يستظل به، أو في طريق، أو نقع ماء".
ونقع الماء المراد به الماء المجتمع، كما في النهاية (وفيهما ضعف) أي: في حديث أحمد وأبي داود.
أما حديث أبي داود فلأنه قال أبو داود عقبه: وهو مرسل؛ وذلك لأنه من رواية أبي سعيد الحميري، ولم يدرك معاذاً فيكون منقطعاً، وقد أخرجه ابن ماجه من هذه الطريق. وأما حديث أحمد؛ فلأن فيه ابن لهيعة، والراوي عن ابن عباس مبهم.
وأَخْرَجَ الطّبرانيُّ النّهيَ عَنْ قَضَاءِ الحاجَةِ تحْتَ الأشْجارِ المُثْمِرَةِ، وضَفَّةِ النَّهْرِ الجَارِي. مِنْ حديثِ ابنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ ضَعيفٍ.
(وأخرج الطبراني) قال الذهبي: هو الإمام الحجة أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني مسند الدنيا، ولد سنة ستين ومائتين، وسمع سنة ثلاث وسبعين، وهاجر بمدائن الشام، والحرمين واليمن، ومصر، وبغداد، والكوفة، والبصرة، وأصبهان، والجزيرة، وغير ذلك. وحدث عن ألف شيخ، أو يزيدون، وكان من فرسان هذا الشأن مع الصدق والأمانة، وأثنى عليه الأئمة (النهي عن قضاء الحاجة تحت الأشجار المثمرة) وإن لم تكن ظلاً لأحد (وضَفّة) بفتح الضاد المعجمة وكسرها جانب (النّهْر الجاري من حديث ابن عمر بسند ضعيف) ؛ لأنّ في رواته متروكاً، وهو فرات بن السائب، ذكره المصنف في التلخيص.
فإذا عرفت هذا، فالذي تحصل من الأحاديث ستة مواضع، منهي عن التبرز فيها: قارعة الطريق، ويقيد مطلق الطريق بالقارعة، والظل، والموارد، ونقع الماء. والأشجاء المثمرة، وجانب النهر. وزاد أبو داود في مراسيله من حديث مكحول: "نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن أن يبال بأبواب المساجد".
وعن جابر قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا تَغَوَّطَ الرَّجُلانِ فلْيَتَوَارَ كلُّ واحِدٍ منْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، ولا يتحدَّثَا؛ فإنَّ الله يمْقُتُ على ذلِكَ". رواهُ أحْمَدُ، وصحّحهُ ابنُ السّكَنِ، وابن القَطّانِ، وهو معْلُولٌ.
(وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذَا تَغَوَّط الرَّجُلان فلْيتَوار) أي يستتر وهو من المهموز جزم بحذف الهمزة: أي المنقلبة ألفاً (كُلُّ واحد منهُما عَنْ صاحبه) والأمر للإيجاب (ولا يتحدَّثا) حال تغوطهما (فإن الله يمْقُت على ذلك) والمقت أشد البغض (رواه أحمد وصححه ابن السكن) بفتح السين المهملة وفتح الكاف، وهو الحافظ الحجة أبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن البغدادي، نزل مصر، وولد سنة أربع وتسعين ومائتين، وعني بهذا الشأن، وجمع وصنف وبعد صيته. روى عنه أئمة من أهل الحديث، توفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة.
(وابن القطان) بفتح القاف وتشديد الطاء، هو الحافظ العلامة، أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك الفارسي الشهير بابن القطان. كان من أبصر الناس بصناعة الحديث، وأحفظهم لأسماء رجاله، وأشدهم عناية بالرواية، وله تأليف. حدَّث ودرس، وله كتاب الوهم والإيهام الذي وضعه على الأحكام الكبرى لعبد الحق، وهو يدل على حفظه وقوة فهمه، لكنه تعنت في أحوال الرجال، توفي في ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وستمائة (وهو معلول) ولم يذكر في الشرح العلة، وهي ما قاله أبو داود: لم يسنده إلا عكرمة بن عمار العجلي اليماني، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وضعّف بعض الحفاظ حديث عكرمة هذا عن يحيى بن أبي كثير. وقد أخرج مسلم حديثه عن يحيى بن أبي كثير، واستشهد البخاري بحديثه عنه. وقد روى حديث النهي عن الكلام حال قضاء الحاجة أبو داود، وابن ماجه من حديث أبي سعيد، وابن خزيمة في صحيحه، إلا أنهم رووه كلهم من رواية عياض بن هلال، أو هلال بن عياض. قال الحافظ المنذري: لا أعرفه بجرح ولا عدالة، وهو في عداد المجهولين.
والحديث دليل على وجوب ستر العورة، والنهي عن التحدث حال قضاء الحاجة، والأصل فيه التحريم، وتعليله بمقت الله عليه، أي: شدة بغضه لفاعل ذلك زيادة في بيان التحريم، ولكنه ادعى في البحر: أنه لا يحرم إجماعاً، وأن النهي للكراهة، فإن صح الإجماع، وإلا فإن الأصل هو التحريم، وقد ترك صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رد السلام الذي هو واجب عند ذلك، فأخرج الجماعة، إلا البخاري عن ابن عمر: "أن رجلاً مرَّ على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهو يبول فسلم عليه، فلم يرد عليه".
وعن أبي قَتَادَةَ رضي الله عنهُ قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يَمَسّنَّ أحدُكُمْ ذَكَرَهُ بيمِينِه، وهُوَ يَبُول، ولا يَتَمَسَّحْ منَ الخلاءِ بيمينِه، ولا يَتَنَفّسْ في الإناءِ" متفق عليه، واللفظ لمسْلم.
(وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: لا يمسّنَّ أحدُكم ذكرَه بيمينه وهو يبول، ولا يتمسّح من الخلاء بيمينه) كناية عن الغائط، كما عرفت أنه أحد ما يطلق عليه (ولا يتنفّس) يخرج نفسه (في الإنَاء) عند شربه منه (متفق عليه واللفظ لمسلم).
فيه دليل على تحريم مس الذكر باليمين حال البول: لأنه الأصل في النهي، وتحريم التمسح بها من الغائط، وكذلك من البول لما يأتي من حديث سلمان، وتحريم التنفس في الإناء حال الشرب. وإلى التحريم ذهب أهل الظاهر في الكل عملاً به، كما عرفت، وكذلك جماعة من الشافعية في الاستنجاء.
وذهب الجمهور: إلى أنه للتنزيه، وأجمل البخاري في الترجمة فقال: "باب النهي عن الاستنجاء باليمين" وذكر حديث الكتاب، قال المصنف في الفتح: "عبّر بالنهي إشارة إلى أنه لم يظهر له هل هو للتحريم، أو للتنزيه؟ أو أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم لم تظهر، وهذا حيث استنجى بالة كالماء والأحجار، أما لو باشر بيده، فإنه حرام إجماعاً. وهذا تنبيه على شرف اليمين وصيانتها عن الأقذار. والنهي عن التنفس في الإناء لئلا يقذره على غيره، أو يسقط من فمه، أو أنفه ما يفسده على الغير، وظاهره أنه للتحريم، وحمله الجماهير على الأدب.
وعن سلمانَ رضي الله عنه قالَ: لَقَدْ نهَانَا رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أنْ نَسْتَقبلَ القبلَةَ بغائِطٍ أوْ بوْلٍ، أو أنْ نسْتَنْجيَ باليَمينِ، أو نَسْتَنْجِي بأقَلَّ منْ ثلاثَةِ أحْجارٍ، أو أن نَسْتَنْجيَ بِرَجيعٍ أوْ عَظْمٍ". رواهُ مسلمٌ.
(وعن سلمان) هو أبو عبد الله سلمان الفارسي، ويقال له: سلمان الخير، مولى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، أصله من فارس، سافر لطلب الدين، وتنصّر، وقرأ الكتب، وله أخبار طويلة نفيسة، ثم تنقل حتى انتهى إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فامن به وحسن إسلامه، وكان رأساً في أهل الإسلام، وقال فيه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "سلمان منا أهل البيت"، وولّاه عمر المدائن، وكان من المعمرين، قيل: عاش مائتين وخمسين سنة.
وقيل: ثلاثمائة وخمسين، وكان يأكل من عمل يده، ويتصدّق بعطائه. مات بالمدينة سنة خمسين، وقيل: اثنتين وثلاثين.
(قال: لقد نهانا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن نستقْبلَ القبْلَةَ بغائط أو بَوْل) المراد أن نستقبل بفروجنا عند خروج الغائط أو البول (أو أن نسْتَنْجي باليَمين) وهذا غير النهي عن مس الذكر باليمين عند البول الذي مرَّ (أو أنْ نسْتَنْجِيَ بأقَلَّ من ثلاثةَ أحْجار) الاستنجاء: إزالة النجو بالماء، أو الحجارة (أو أن نستنجي برجيع) وهو الروث (أو عظم. رواه مسلم).
الحديث فيه النهي عن استقبال القبلة، وهي الكعبة، كما فسرها حديث أبي أيوب في قوله: "فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف ونستغفر الله"، وسيأتي، ثم قد ورد النهي عن استدبارها أيضاً، كما في حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعاً: "إذا جلس أحدكم لحاجته، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها" وغيره من الأحاديث.
واختلف العلماء هل هذا النهي للتحريم، أو لا؟
على خمسة أقوال:
الأول: أنه للتنزيه بلا فرق بين الفضاء والعمران، فيكون مكروهاً، وأحاديث النهي محمولة على ذلك بقرينة حديث جابر: "رأيته قبل موته بعام مستقبل القبلة" أخرجه أحمد، وابن حبان، وغيرهما، وحديث ابن عمر: "أنه رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقضي حاجته مستقبلاً لبيت المقدس مستدبراً للكعبة" متفق عليه. وحديث عائشة: "فحولوا مقعدتي إلى القبلة" المراد بمقعدته ما كان يقعد عليه حال قضاء حاجته إلى القبلة: رواه أحمد، وابن ماجه، وإسناده حسن.
وأول الحديث: أنه ذكر عند رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قوم يكرهون أن يستقبلوا بفرجهم القبلة قال: "أراهم قد فعلوا استقبلوا بمقعدتي القبلة" هذا لفظ ابن ماجه: وقال الذهبي في الميزان: في ترجمة خالد بن أبي الصلت: هذا الحديث منكر.
الثاني: أنه محرّم فيهما، لظاهر أحاديث النهي، والأحاديث التي جعلت قرينة على أن للتنزيه محمولة على أنها كانت لعذر، ولأنها حكاية فعل، لا عموم لها.
الثالث: أنه مباح فيهما قالوا: وأحاديث النهي منسوخة بأحاديث الإباحة؛ لأن فيها التقييد بقبل عام ونحوه، واستقواه في الشرح.
الرابع: يحرم في الصحارى دون العمران؛ لأن أحاديث الإباحة وردت في العمران فحملت عليه، وأحاديث النهي عامة، وبعد تخصيص العمران بأحاديث فعله التي سلفت بقيت الصحارى على التحريم. وقد قال ابن عمر: "إنما نهى عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك، فلا بأس به" رواه أبو داود وغيره، وهذا القول ليس بالبعيد؛ لبقاء أحاديث النهي على بابها، وأحاديث الإباحة كذلك.
الخامس: الفرق بين الاستقبال فيحرم فيهما، ويجوز الاستدبار فيهما، وهو مردود بورود النهي فيهما على سواء. فهذه خمسة أقوال. أقربها الرابع.
وقد ذكر عن الشعبي: أنّ سبب النهي في الصحراء: أنها لا تخلو عن مصلِّ من مَلَك أو ادمي أو جني: فربما وقع بصره على عورته، رواه البيهقي. وقد سئل: أي الشعبي، عن اختلاف الحديثين: حديث ابن عمر أنه راه يستدبر القبلة، وحديث أبي هريرة في النهي، فقال: صدقا جميعاً. أما قول أبي هريرة فهو في الصحراء، فإن لله عباداً ملائكة وجنّا يصلون، فلا يستقبلهم أحد ببول ولا غائط، ولا يستدبرهم. وأما كنفكم فإنما هي بيوت بنيت لا قبلة فيها، وهذا خاص بالكعبة.
وقد ألحق بها بيت المقدس لحديث أبي داود: "نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن استقبال القبلتين بغائط أو بول"، وهو حديث ضعيف، لا يقوى على رفع الأصل، وأضعف منه القول بكراهة استقبال القمرين؛ لما يأتي في الحديث الثاني عشر.
والاستنجاء باليمنى تقدم الكلام عليه.
وقوله: "أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" يدل على أنه لا يجزىء أقل من ثلاثة أحجار، وقد ورد كيفية استعمال الثلاث في حديث ابن عباس: "حجران للصفحتين وحجر للمسربة" وهي بسين مهملة وراء مضمومة أو مفتوحة مجرى الحدث من الدبر.
وللعلماء خلاف في الاستنجاء بالحجارة:
فالهادوية على أنه لا يجب الاستنجاء إلا على المتيمم، أو من خشي تعدي الرطوبة ولم تزل النجاسة بالماء، وفي غير هذه الحالة مندوب لا واجب، وإنما يجب الاستنجاء بالماء للصلاة.
وذهب الشافعي إلى أنه مخيّر بين الماء، والحجارة، أيهما فعل أجزأه.
وإذا اكتفى بالحجارة، فلا بد عنده من الثلاث المسحات، ولو زالت العين بدونها، وقيل: إذا حصل الإنقاء بدون الثلاث أجزأ، وإذا لم يحصل بثلاث، فلا بدّ من الزيادة، ويندب الإيتار. ويستحب التثليث في القبل والدبر فتكون ستة أحجار، وورد ذلك في حديث.
قلت: إلا أن الأحاديث لم تأتِ في طلبه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لابن مسعود، وأبي هريرة، وغيرها إلا بثلاثة أحجار، وجاء بيان كيفية استعمالها في الدبر، ولم يأتِ في القبل، ولو كانت الست مرادة لطلبها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عند إرادته التبرز، ولو في بعض الحالات، فلو كان حجر له ستة أحرف أجزأ المسح به.
ويقوم غير الحجارة مما ينقي مقامها:
خلافاً للظاهرية فقالوا: بوجوب الأحجار تمسكاً بظاهر الحديث.
وأجيب: بأنه خرج على الغالب؛ لأن المتيسَّر، ويدل على ذلك نهيه أن يستنجى برجيع أو عظم. ولو تعيّنت الحجارة لنهى عما سواها، وكذلك نهى عن الحمم، فعند أبي داود: "مُرْ أمّتك أن لا يستنجوا بروثة أو حممة؛ فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقاً" فنهى صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن ذلك.
وكذلك ورد في العظم: أنها من طعام الجن، كما أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود، وفيه: "أنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للجن لما سألوه الزاد: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم".
ولا ينافيه تعليل الروثة بأنها ركس في حديث ابن مسعود، لما طلب منه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يأتيه بثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين وروثة، فألقى الروثة، وقال: "إنها ركس" فقد يعلل الأمر الواحد بعلل كثيرة ولا مانع أيضاً أن تكون رجساً، وتجعل لدواب الجن طعاماً. ومما يدل على عدم النهي عن استقبال القمرين الحديث الآتي:
وللسبعةَ من حديث أبي أَيُّوبَ الأنصاريِّ رضي الله عنهُ: فلا تَسْتَقْبلوا القِبْلَةَ، ولا تَسْتَدْبِرُوهَا ببَوْلٍ أو غَائِطٍ، ولكنْ شَرِّقُوا أوْ غَرِّبُوا".
وهو قوله (وللسبعة من حديث أبي أيوب) واسمه خالد بن زيد بن كليب الأنصاري من أكابر الصحابة شهد بدراً، ونزل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حال قدومه المدينة عليه. مات غازياً سنة خمسين بالروم، وقيل: بعدها.
والحديث مرفوع أوله: أنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا أتيتم الغائط" الحديث، وفي آخره من كلام أبي أيوب قال: "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة" الحديث تقدم؛ فقوله: (فلا تستَقبلوا القبْلَةَ ولا تستدبروها ببَوْل أو غائط ولكن شرّقوا أو غرّبوا) صريح في جواز استقبال القمرين، واستدبارهما؛ إذ لا بد أن يكونا في الشرق أو الغرب غالباً.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ أتى الغَائِطَ فَلْيَسْتَترْ" رواه أبو داود.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ أتى الغَائِطَ فَلْيَسْتَترْ" رواه أبو داود.
هذا الحديث في السنن نسبه إلى أبي هريرة، وكذلك في التلخيص، وقال: مداره على أبي سعيد الحبراني الحمصي وفيه اختلاف. قيل: إنه صحابي، ولا يصح، والراوي عنه مختلف فيه.
والحديث كالذي سلف: دال على وجوب الاستتار، وقد قدمنا شطره، ولفظه في السنن عن أبي هريرة عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، وما لاك بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج؛ ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فليستتر به، فإنّ الشيطان يلعب بمقاعد بني ادم، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" فهذا الحديث الذي أخرجه أبو داود عن أبي هريرة، وليس له هنا عن عائشة رواية، ثم هو مضعّف بمن سمعت، فكان على المصنف أن يعزوه إلى أبي هريرة، وأن يشير إلى ما فيه على عادته في الإشارة إلى ما قيل في الحديث، وكأنه ترك؛ لأنه قال في فتح الباري: إن إسناده حسن، وفي البدر المنير: أنه حديث صحيح صححه جماعة، منهم ابن حبان، والحاكم، والنووي.
وعَنْهَا: أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ إذا خرَجَ مِنَ الغائطِ قالَ: "غُفْرانَكَ". أخرجه الخمسةُ. وصحّحهُ الحَاكِمُ وأَبُو حَاتِمٍ.
(وعنها) أي عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك) بالنصب على أنه مفعول فعل محذوف: أي: أطلب غفرانك (أخرجه الخمسة وصححه الحاكم وأبو حاتم).
ولفظة "خرج" تشعر بالخروج من المكان كما سلف في لفظ "دخل"، ولكن المراد أعم منه، ولو كان في الصحراء.
قيل: واستغفاره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من تركه لذكر الله وقت قضاء الحاجة؛ لأنه كان يذكر الله على كل أحيانه، فجعل تركه لذكر الله في تلك الحال تقصيراً، وعدّه على نفسه ذنباً، فتداركه بالاستغفار.
وقيل: معناه التوبة من تقصيره في شكر نعمته التي أنعم بها عليه، فأطعمه، ثم هضمه، ثم سهل خروج الأذى منه، فرأى شكره قاصراً عن بلوغ حق هذه النعمة، ففزع إلى الاستغفار منه، وهذا أنسب ليوافق حديث "أنس قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. رواه ابن ماجه. وورد في وصف نوح عليه السلام: أنه كان يقول من جملة شكره بعد الغائط: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى ولو شاء حبسه فيّ". وقد وصفه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأنه كان عبداً شكوراً.
قلت: ويحتمل أن استغفاره للأمرين معاً، ولما لا نعلمه، على أنه يقال: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وإن ترك الذكر بلسانه حال التبرز لم يتركه بقلبه.
وفي الباب من حديث أنس: كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "الحمد لله الذي أحسن إليَّ في أوله واخره".
وحديث ابن عمر: أنه كان يقول إذا خرج: "الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيَّ قوته وأذهب عني أذاه". وكل أسانيدها ضعيفة.
وقال أبو حاتم: أصح ما فيه حديث عائشة.
قلت: لكنه لا بأس في الإتيان بها جميعاً شكراً على النعمة، ولا يشترط الصحة للحديث في مثل هذا.
وعن ابن مسعودٍ رضيَ الله عنهُ قالَ: "أتى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أنْ اتِيهُ بثلاثةِ أحْجارٍ فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، ولمْ أجِدْ ثالثاً، فَأَتَيْتُهُ بِرَوْثَةٍ. فَأَخَذَهُمَا وأَلْقَى الرَّوثَةَ، وقالَ: "إنها رِكْسٌ" أخرجه البخاريُّ. وزاد أحْمدُ والدارقطنيُّ "ائْتِني بِغَيْرِها".
(وعن ابن مسعود) هو عبد الله بن مسعود. قال الذهبي: هو الإمام الرباني أبو عبد الرحمن، عبد الله بن أم عبد الهذلي، صاحب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وخادمه، وأحد السابقين الأولين، من كبار البدريين، ومن نبلاء الفقهاء والمقربين. أسلم قديماً، وحفظ من فيِّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سبعين سورة، وقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ أحب أن يقرأ القران غضّاً، كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، وفضائله جمة عديدة. توفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وله نحو من ستين سنة (قال: أتى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الغائط فأمرني أن اتيَهُ بثلاثةِ أحجار، فوجدتُ حَجَرينِ ولم أجد ثالثاً، فأتيْتُهُ برَوْثة، فأخذهما وألقَى الرَّوثَة) زاد ابن خزيمة: أنها "كانت روثة حمار" (وقال: إنها ركس) بكسر الراء وسكون الكاف، في القاموس: إنه الرجس (أخرجه البخاري، وزاد أحمد والدارقطني: ائتني بغيرها).
أخذ بهذا الحديث الشافعي، وأحمد، وأصحاب الحديث، فاشترطوا أن لا تنقص الأحجار عن الثلاث مع مراعاة الإنقاء. وإذا لم يحصل بها زاد حتى ينقى. ويستحب الإيتار، وتقدمت الإشارة إلى ذلك. ولا يجب الإيتار لحديث أبي داود: "ومن لا فلا حرج" تقدم.
قال الخطابي: لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا ذكر اشتراط العدد عن الفائدة، فلما اشترط العدد لفظاً، وعلم الإنقاء معنى دلّ على إيجاب الأمرين، وأما قول الطحاوي: لو كان الثلاث شرطاً لطلب صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثالثاً. فجوابه: أنه قد طلب صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الثالث، كما في رواية أحمد، والدارقطني المذكورة في كلام المصنف، وقد قال في الفتح: إن رجاله ثقات، على أنه لو لم تثبت الزيادة هذه، فالجواب على الطحاوي: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاث، وحين ألقى الروثة علم ابن مسعود أنه لم يتم امتثاله الأمر حتى يأتي بثالثة. ثم يحتمل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اكتفى بأحد أطراف الحجرين، فمسح به المسحة الثالثة، إذ المطلوب تثليث المسح ولو بأطراف حجر واحد. وهذه الثلاث لأحد السبيلين.
ويشترط للآخر ثلاثة أيضاً فتكون ستة؛ لحديث ورد بذلك في مسند أحمد، على أنّ في النفس من إثبات ستة أحجار شيئاً، فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما علم أنه طلب ستة أحجار مع تكرّر ذلك منه مع أبي هريرة، وابن مسعود، وغيرهما. والأحاديث بلفظ: "من أتى الغائط"، كحديث عائشة: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزىء عنه" عند أحمد، والنسائي، وأبي داود، والدارقطني، وقال: إسناده حسن صحيح، مع أن الغائط ــــ إذا أطلق ــــ ظاهر في خارج الدبر، وخارج القبل يلازمه. وفي حديث خزيمة بن ثابت: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سئل عن الاستطابة فقال: "بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع" أخرجه أبو داود، والسؤال عام للمخرجيْن معاً، أو أحدهما، والمحل محل البيان. وحديث سلمان بلفظ: "أمرنا أن لا نكتفي بدون ثلاثة أحجار" وهو مطلق في المخرجيْن. ومن اشترط الستة؛ فلحديث أخرجه أحمد، ولا أدري ما صحته، فيبحث عنه، ثم تتبعت الأحاديث الواردة في الأمر بثلاثة أحجار، والنهي عن أقل منها فإذا هي كلها في خارج الدبر، فإنها بلفظ النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار، وبلفظ الاستجمار: "إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً"، وبلفظ التمسح: "نهى صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يتمسح بعظم".
إذا عرفت هذا: فالاستنجاء لغة: إزالة النجو، وهو الغائط، والغائط كناية عن العذرة، والعذرة خارج الدبر، كما يفيد ذلك كلام أهل اللغة، ففي القاموس: النجو: ما يخرج من البطن من ريح أو غائط، واستنجى: اغتسل بالماء، أو تمسح بالحجر، وفيه استطاب: استنجى، واستجمر: استنجى، وفيه التمسح: إمرار اليد لإزالة الشيء السائل، أو المتلطخ اهـ.
فعرفت من هذا كله أن الثلاثة الأحجار لم يرد الأمر بها والنهي عن أقل منها إلا في إزالة خارج الدبر، لا غير، ولم يأت بها دليل في خارج القبل، والأصل عدم التقدير بعدد، بل المطلوب الإزالة لأثر البول من الذكر، فيكفي فيه واحدة، مع أنه قد ورد بيان استعمال الثلاث في الدبر: بأنَّ واحدة للمسربة واثنتين للصفحتين، ما ذاك إلا لاختصاصه بها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: "إنَّ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى أن يُسْتَنْجى بعظْمٍ، أوْ رَوْثٍ" وقالَ: "إنّهُمَا لا يُطَهِّرانِ" رواه الدارقطني وصححه.
وأخرجه ابن خزيمة بلفظ هذا، والبخاري بقريب منه، وزاد فيه أنه قال له أبو هريرة لما فرغ: ما بال العظم والروث؟ قال: "هي من طعام الجن" وأخرجه البيهقي مطولاً كذا في الشرح، ولفظه في سنن البيهقي: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لأبي هريرة رضي الله عنه: ابغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتيني بعظم ولا روث، فأتيته بأحجار في ثوبي، فوضعتها إلى جنبه، حتى إذا فرغ وقام تبعته، فقلت: يا رسول الله ما بال العظم والروث؟
فقال: "أتاني وفد نصيبين، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم ألا يمرُّوا بروثة، ولا عظم إلا وجدوا عليه طعاماً"، والنهي في الباب عن الزبير، وجابر، وسهل بن حنيف، وغيرهم بأسانيد فيها ما فيه مقال، والمجموع يشهد بعضها لبعض.
وعلّل هنا بأنهما لا يطهران. وعلّل بأنهما طعام الجن؛ وعلّلت الروثة بأنها ركس، والتعليل بعدم التطهير فيها عائد إلى كونها ركساً. وأما عدم تطهير العظم، فلأنه لزج لا يكاد يتماسك فلا ينشف النجاسة ولا يقطع البلة. ولما علل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأن العظم والروثة طعام الجن، قال له ابن مسعود: وما يغني عنهم ذلك يا رسول الله؟ قال: "إنهم لا يجدون عظماً، إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أخذ، ولا وجدوا روثاً، إلا وجدوا فيه حبه الذي كان يوم أكل" رواه أبو عبد الله الحاكم في الدلائل، ولا ينافيه ما ورد: أن الروث علف لدوابهم، كما لا يخفى.
وفيه دليل على أن الاستنجاء بالأحجار طهارة لا يلزم معها الماء، وإن استحب؛ لأنه علل بأنهما لا يطهران، فأفاد أن غيرهما يطهر.
وَعَنْ أبي هريرة رضيَ الله عنهُ قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اسْتَنزهُوا مِن الْبَوْلِ، فإنّ عامّةَ عذابِ القَبْرِ مِنْهُ". رواه الدارقطنيُّ.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: اسْتَنْزهوا) من التنزه وهو البعد بمعنى: تنزهوا، أو بمعنى اطلبوا النزاهة (من البَوْل فإنَّ عامَّةَ عذاب القبر) أي أكثر من يعذب فيه (منه) أي بسبب ملابسته وعدم التنزه عنه (رواه الدارقطني).
والحديث أمر بالبعد عن البول، وأنّ عقوبة عدم التنزه منه تعجل في القبر، وقد ثبت حديث الصحيحين: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مرّ بقبرين يعذبان، ثم أخبر: أن عذاب أحدهما؛ لأنه كان لا يستنزه من البول، أو لأنه لا يستتر من بوله" من الاستتار: أي: لا يجعل بينه وبين بوله ساتراً يمنعه عن الملامسة له، أو: "لأنه لا يستبرىء" من الاستبراء، أو: "لأنه لا يتوقاه"، وكلها ألفاظ واردة في الروايات، والكلّ مفيد لتحريم ملامسة البول وعدم التحرّز منه.
وقد اختلف الفقهاء هل إزالة النجاسة فرض أو لا؟
فقال مالك: إزالتها ليست بفرض.
وقال الشافعي: إزالتها فرض ما عدا ما يعفى عنه منها. واستدل على الفرضية بحديث التعذيب على عدم التنزه من البول، وهو وعيد لا يكون إلا على ترك فرض. واعتذر لمالك عن الحديث: بأنه يحتمل أنه عذّب؛ لأنه كان يترك البول يسيل عليه، فيصلي بغير طهور؛ لأن الوضوء لا يصح مع وجوده، ولا يخفى أن أحاديث الأمر بالذهاب إلى المخرج بالأحجار، والأمر بالاستطابة دالّة على وجوب إزالة النجاسة، وفيه دلالة على نجاسة البول.
والحديث نص في بول الإنسان؛ لأن الألف واللام في البول في حديث الباب عوض عن المضاف إليه، أي: عن بوله، بدليل لفظ البخاري في صاحب القبرين، فإنها بلفظ: "كان لا يستنزه عن بوله"، ومن حمله في جميع الأبوال، وأدخل فيه أبوال الإبل، كالمصنف في فتح الباري، فقد تعسف، وقد بيّنا وجه التعسف في هوامش فتح الباري.
وللْحَاكِمِ: "أكثرُ عَذابِ الْقبرِ مِنَ الْبَوْلِ" وهوَ صحيحُ الإسْنادِ.
(وللحاكم) أي: من حديث أبي هريرة (أكثر عذاب القبر من البول، وهو صحيح الإسناد).
هذا كلامه هنا، وفي التلخيص ما لفظه: وللحاكم، وأحمد، وابن ماجه: "أكثر عذاب القبر من البول"، وأعله أبو حاتم، وقال: إن رفعه باطل اهـ. ولم يتعقبه بحرف، وهنا جزم بصحته، فاختلف كلامه كما ترى، ولم يتنبه الشارح رحمه الله لذلك، فأقرّ كلامه هنا.
والحديث يفيد ما أفاده الأول. واختلف في عدم الاستنزاه: هل هو من الكبائر، أو من الصغائر؟ وسبب الاختلاف حديث صاحبي القبرين؛ فإن فيه "وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير" بعد أن ذكر: أن أحدهما عذب بسبب عدم الاستبراء من البول.
فقيل: إنّ نفيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كبر ما يعذبان فيه يدل على أنه من الصغائر.
ورد هذا بأن قوله: "بلى إنه لكبير" يرد هذا.
وقيل: بل أراد أنه ليس بكبير في اعتقادهما، أو في اعتقاد المخاطبين، وهو عند الله كبير.
وقيل: ليس بكبير في مشقة الاحتراز، وجزم بهذا البغوي، ورجّحه ابن دقيق العيد.
وقيل: غير ذلك، وعلى هذا فهو من الكبائر.
وعن سُرَاقَةَ بن مالك رضي الله عنهُ قالَ: عَلّمَنَا رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الْخَلاءِ: "أنْ نَقْعدَ على اليُسْرى، ونَنْصِب اليُمْنى". رواهُ الْبَيْهقي بِسَنَدٍ ضَعيفٍ.
(وعن سراقة) رضي الله عنه بضم السين المهملة وبعد الراء قاف، وهو أبو سفيان سراقة (بن مالك) بن جعشم بضم الجيم وسكون المهملة وضم الشين المعجمة، وهو الذي ساخت قوائم فرسه، لما لحق برسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حين خرج فاراً من مكة، والقصة مشهورة، قال سراقة في ذلك يخاطب أبا جهل:
[شع] أبا حكم والله لو كنت شاهداً
لأمر جوادي حين ساخت قوائمه[/شع]
[شع] علمت ولم تشكك بأن محمداً
رسول ببرهان فمن ذا يقاومه[/شع]
من أبيات. توفي سراقة سنة أربع وعشرين في صدر خلافة عثمان.
(قال: علّمَنَا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الخلاء أن نقعد على اليُسْرَى) من الرجلين (ونَنْصبَ اليمنى. رواه البيهقي بسند ضعيف) وأخرجه الطبراني. قال الحازمي: في سنده مَن لا نعرفه، ولا نعلم في الباب غيره.
قيل: والحكمة في ذلك: أنه يكون أعون على خروج الخارج؛ لأن المعدة في الجانب الأيسر.
وقيل: ليكون معتمداً على اليسرى، ويقل مع ذلك استعمال اليمنى لشرفها.
وعن عيسى بن يَزْدَادَ، عن أبيه رضي الله عنهما قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا بالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثلاث مَرَّاتٍ". رواه ابنُ ماجَهْ بِسَنَد ضعيف.
(وعن عيسى بن يزداد رضي الله عنه) قيل بباء موحدة وراء مهملة ودالين مهملتين بينهما ألف، وضبط بمثناة تحتية وزاي معجمة وبقيته كالأول (عن أبيه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا بال أحدكم فَلْيَنْتُر ذكرَهُ ثلاث مرات" رواه ابن ماجه بسند ضعيف) ورواه أحمد في مسنده، والبيهقي، وابن قانع، وأبو نعيم في المعرفة، وأبو داود في المراسيل، والعقيلي في الضعفاء، كلهم من رواية عيسى المذكور. قال ابن معين: لا يعرف عيسى، ولا أبوه.
وقال العقيلي: لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به. وقال النووي في شرح المهذب: اتفقوا على أنه ضعيف، إلا أن معناه في الصحيحين في رواية صاحبي القبرين على رواية ابن عساكر: "كان لا يستبرىء من بوله" بموحدة ساكنة، أي: لا يستفرغ البول جهده بعد فراغه منه، فيخرج بعد وضوئه. والحكمة في ذلك حصول الظن بأنه لم يبق في المخرج ما يخاف من خروجه، وقد أوجب بعضهم الاستبراء؛ لحديث أحد صاحبي القبرين هذا، وهو شاهد لحديث الباب.
وعَنْ ابنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سألَ أَهْلَ قُبَاءٍ، فقالَ: "إنَّ الله يُثني علَيْكم" فقالوا: إنّا نُتْبِعُ الحجارةَ الماءَ. رواه البزَّارُ بسَنَدٍ ضعيفٍ. وأصْلُهُ في أبي داود.
وصَحَحّهُ ابنُ خُزيمَةَ مِنْ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهُ بدُون ذكرِ الحجارةِ.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سأل أهل قباء) بضم القاف ممدود مذكر مصروف، وفيه لغة بالقصر وعدم الصرف (فقال: إنَّ الله يثْني عليكم فقالوا: إنّا نُتْبع الحجارة الماء. رواه البزار بسند ضعيف). قال البزار: لا نعلم أحداً رواه عن الزهري إلا محمد بن عبد العزيز، ولا عنه إلا ابنه. ومحمد ضعيف، وراويه عنه عبد الله بن شبيب ضعيف، (وأصله في أبي داود) والترمذي في السنن عن أبي هريرة عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "نزلت هذه الاية في أهل قباء" {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية. قال المنذري: زاد الترمذي: غريب، وأخرجه ابن ماجه (وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة بدون ذكر الحجارة).
قال النووي في شرح المهذب: المعروف في طرق الحديث أنهم كانوا يستنجون بالماء، وليس فيه أنهم كانوا يجمعون بين الماء والأحجار. وتبعه ابن الرفعة فقال: لا يوجد هذا في كتب الحديث. وكذا قال المحب الطبري نحوه. قال المصنف: ورواية البزار واردة عليهم، وإن كانت ضعيفة.
قلت: يحتمل أنهم يريدون لا يوجد في كتب الحديث بسند صحيح، ولكن الأولى الردّ بما في الإلمام؛ فإنه صحح ذلك. قال في البدر: والنووي معذور، فإن رواية ذلك غريبة في زوايا وخبايا، لو قطعت إليها أكباد الإبل لكان قليلاً.
قلت: يتحصل من هذا كله: أن الاستنجاء بالماء أفضل من الحجارة، والجمع بينهما أفضل من الكل بعد صحة ما في الإلمام، ولم نجد عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه جمع بينهما.
وعدة أحاديث باب قضاء الحاجة أحد وعشرون. وقال في الشرح: خمسة عشر: وكأنه عدَّ أحاديث الملاعن حديثاً واحداً، ولا وجه له، فإنها أربعة أحاديث عن أبي هريرة عند مسلم، وعن معاذ عند أبي داود، وعن ابن عباس عند أحمد. وعن ابن عمر عند الطبراني، فقد اختلفت صحابة ومخرجين، وعد حديثي النهي عن استقبال القبلة واحداً وهما حديثان: عن سلمان عند مسلم، وعن أبي أيوب عند السبعة.
باب الغسل وحكم الجنب
الغُسل بضم الغين المعجمة: اسم للاغتسال.
وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم، وأما المصدر فيجوز فيه الضم والفتح.
وقيل: المصدر بالفتح، والاغتسال بالضم.
وقيل: إنه بالفتح فعل المغتسل، وبالضم الذي يغتسل به. وبالكسر ما يجعل مع الماء كالأشنان (وحكم الجنب) أي: الأحكام المتعلقة بمن أصابته جنابة.
عَنْ أبي سعيدٍ الْخُدْري رضي الله تعالى عنه قالَ: قالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الماءُ مِنَ الماءِ" رواه مُسلمٌ، وأصْلُهُ في البخاريِّ.
أي: الاغتسال من الإنزال، فالماء الأول المعروف، والثاني المني، وفيه من البديع الجناس التام. وحقيقة الاغتسال إفاضة الماء على الأعضاء.
واختلف في وجوب الدلك: فقيل: يجب.
وقيل: لا يجب. والتحقيق أن المسألة لغوية: فإن الوارد في القران الغسل في أعضاء الوضوء، فيتوقف إثبات الدلك فيه على أنه من مسماه. وأما الغسل فورد بلفظ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى  أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وهذا اللفظ فيه زيادة على مسمى الغسل، وأقلها الدلك. وما عدل عز وجل في العبارة إلا لإفادة التفرقة بين الأمرين. فأما الغسل فالظاهر أنه ليس من مسماه الدلك؛ إذ يقال: غسله العرق، وغسله المطر، فلا بد من دليل خارجي على شريطة الدلك في غسل أعضاء الوضوء، بخلاف غسل الجنابة والحيض، فقد ورد فيه بلفظ التطهير كما سمعت، وفي الحيض: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} إلا أنه سيأتي في حديث عائشة وميمونة ما يدل على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اكتفى في إزالة الجنابة بمجرد الغسل، وإفاضة الماء من دون الدلك، فالله أعلم بالنكتة التي لأجلها عبّر في التنزيل عن غسل أعضاء الوضوء بالغسل، وعن إزالة الجنابة بالتطهير، مع الاتحاد في الكيفية.
وأما المسح، فإنه الإمرار على الشيء باليد، يصيب ما أصاب، ويخطىء ما أخطأ، فلا يقال: لا يبقى فرق بين الغسل والمسح إذا لم يشترط الدلك.
وحديث الكتاب ذكره مسلم، كما نسبه المصنف إليه في قصة عتبان بن مالك، ورواه أبو داود، وابن خزيمة، وابن حبان بلفظ الكتاب، وروى البخاري القصة ولم يذكر الحديث. ولذا قال المصنف: وأصله في البخاري وهو: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لعتبان بن مالك: "إذا أعجلت أو أقحطت فعليك الوضوء". والحديث له طرق عن جماعة من الصحابة عن أبي أيوب، وعن رافع بن خديج، وعن عتبان بن مالك، وعن أبي هريرة، وعن أنس.
والحديث دالّ بمفهوم الحصر المستفاد من تعريف المسند إليه. وقد ورد عند مسلم بلفظ: "إنما الماء من الماء" على أنه لا غسل إلا من الإنزال، ولا غسل من التقاء الختانين، وإليه ذهب داود، وقليل من الصحابة، والتابعين. وفي البخاري: "أنه سئل عثمان عمن يجامع امرأته، ولم يمن، فقال: يتوضأ، كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره".
وقال عثمان: سمعته من رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وبمثله قال علي، والزبير، وطلحة، وأبيّ ابن كعب، وأبو أيوب، ورفعه إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ثم قال البخاري: الغسل أحوط.
وقال الجمهور: هذا المفهوم منسوخ بحديث أبي هريرة الآتي:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأربعِ، ثمَّ جَهَدَهَا، فقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ" متفق عليه.
وزادَ مُسْلمٌ: "وإنْ لمْ يُنْزِلْ".
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا جلسَ) أي: الرجل المعلوم من السياق (بين شُعَبها) أي: المرأة (الأربع) بضم الشين المعجمة وفتح العين المهملة فموحدة جمع شعبة (ثم جَهَدَهَا) بفتح الجيم والهاء، معناه: كدها. بحركته، أي: بلغ جهده في العمل بها (فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ) وفي رواية مسلم: "ثم اجتهد" وعند أبي داود: "وألزق الختان بالختان ثم جهدها". قال المصنف في الفتح: وهذا يدلّ على أنّ الجهد هنا: كناية عن معالجة الإيلاج (متفق عليه. زاد مسلم: وإن لم ينزل) والشعب الأربع، وقيل: يداها ورجلاها، وقيل رجلاها وفخذاها، وقيل: ساقاها وفخذاها، وقيل: غير ذلك، والكل كناية عن الجماع.
فهذا الحديث استدل به الجمهور على نسخ مفهوم حديث "الماء من الماء"، واستدلوا على أن هذا اخر الأمرين: بما رواه أحمد وغيره من طريق الزهري، عن أبيّ بن كعب أنه قال: "إن الفتيا التي كانوا يقولون: إن الماء من الماء رخصة، كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رخص بها في أول الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد" صححه ابن خزيمة، وابن حبان، وقال الإسماعيلي: إنه صحيح على شرط البخاري، وهو صريح في النسخ.
على أن حديث الغسل وإن لم ينزل أرجح لو لم يثبت النسخ، منطوق في إيجاب الغسل، وذلك مفهوم، والمنطوق مقدم على العمل بالمفهوم، وإن كان المفهوم موافقاً للبراءة الأصلية، والاية تعضد المنطوق في إيجاب الغسل؛ إنه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى  أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. قال الشافعي: إن كلام العرب يقتضي: أن الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع، وإن لم يكن فيه إنزال، قال: فإن كل من خوطب بأن فلاناً أجنب عن فلانة، عقل: أنه أصابها، وإن لم ينزل. قال: ولم يختلف أن الزنا الذي يجب به الجلد هو الجماع، ولو لم يكن منه إنزال اهـ. فتعاضد الكتاب والسنة على إيجاب الغسل من الإيلاج.
وعن أنَسٍ رضيَ الله عنهُ قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: ــــ في المرأةِ تَرَى في منَامِهَا ما يَرَى الرجُلُ ــــ قالَ: "تَغْتَسِلُ" متفق عليه.
زادَ مُسْلمٌ: فقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وهلْ يَكُونُ هذا؟ قَالَ: "نَعَم، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟".
(وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل قال: "تغتسل". متفق عليه،زاد مسلم فقالت أم سلمة: وهل يكون هذا؟ قال: نعم ، فمن أين يكون الشبه)
بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة وبفتحهما لغتان، اتفق الشيخان على إخراجه من طرق عن أم سلمة، وعائشة، وأنس، ووقعت هذه المسألة لنساء من الصحابيات: لخولة بنت حكيم عند أحمد، والنسائي، وابن ماجه، ولسهلة بنت سهيل عند الطبراني؛ ولبسرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبة.
والحديث دليل على أن المرأة ترى ما يراه الرجل في منامه، والمراد إذا أنزلت الماء، كما في البخاري: "قال: نعم إذا رأت الماء". أي المني بعد الاستيقاظ؛ وفي رواية: "هنّ شقائق الرجال".
وفيه: ما يدلّ على أن ذلك غالب من حال النساء كالرجال. ورد على من زعم أن مني المرأة لا يبرز. وقوله: "فمن أين يكون الشبه؟" استفهام إنكار، وتقرير أنّ الولد تارة يشبه أباه، وتارة يشبه أمه وأخواله، فأيّ الماءين غلب كان الشبه للغالب.
وعن عائشة رضي الله عنها قالتْ: "كانَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَغْتَسِلُ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنَ الجَنَابَةِ، ويَوْمَ الجمعةِ، ومِنَ الحِجامَةِ، ومِنْ غُسْلِ المَيِّتِ". رواهُ أبو داود، وصَحّحه ابن خُزيمةَ.
وعن عائشة رضي الله عنها قالتْ: "كانَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَغْتَسِلُ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنَ الجَنَابَةِ، ويَوْمَ الجمعةِ، ومِنَ الحِجامَةِ، ومِنْ غُسْلِ المَيِّتِ". رواهُ أبو داود، وصَحّحه ابن خُزيمةَ.
ورواه أحمد والبيهقي، وفي إسناده مصعب بن شيبة، وفيه مقال.
والحديث: دليل على مشروعية الغسل في هذه الأربعة الأحوال. فأما الجنابة فالوجوب ظاهر.
وأما الجمعة: ففي حكمه ووقته خلاف. أما حكمه فالجمهور على أنه مسنون لحديث سمرة: "مَنْ توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل".
يأتي قريباً. وقال داود، وجماعة: إنه واجب، لحديث: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" يأتي قريباً، أخرجه السبعة من حديث أبي سعيد.
وأجيب: بأنه يحمل الوجوب على تأكد السنية.
وأما وقته: ففيه خلاف أيضاً. فعند الهادوية: أنه من فجر الجمعة إلى عصرها، وعند غيرهم: أنه للصلاة، فلا يشرع بعدها ما لم يدخل وقت العصر. وحديث "مَنْ أتى الجمعة فليغتسل" دليل الثاني، وحديث عائشة هذا يناسب الأول.
أما الغسل من الحجامة: فقيل: هو سنة، وتقدم حديث أنس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم احتجم، وصلى، ولم يتوضأ" فدل على أنه سنة: يفعل تارة، كما أفاده حديث عائشة هذا، ويترك أخرى، كما في حديث أنس، ويروى عن علي عليه السلام: "الغسل من الحجامة سنة، وإن تطهرت أجزأك".
وأما الغسل من غسل الميت فتقدم الكلام فيه. وللعلماء فيه ثلاثة أقوال. أنه سنة وهو أقربها، وأنه واجب، وأنه لا يستحب.
وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهُ ــــ في قِصَّةِ ثمامةَ بن أُثالٍ، عندما أسلم ــــ وأمره النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يغتسل، رواه عبدُ الرَّزَّاقِ وأصْلُهُ متفق عليه.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه) أنه قال: (في قصة ثمامة) بضم المثلثة وتخفيف الميم (ابن أثال) بضم الهمزة فمثلثة مفتوحة وهو الحنفي سيد أهل اليمامة (عندما أسلم) أي عند إسلامه: (وأمره النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يغتسل. رواه عبد الرزاق).
وهو الحافظ الكبير: عبد الرزاق بن همام الصنعاني صاحب التصانيف، روى عن عبيد الله بن عمر، وعن خلائق. وعنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، والذهلي. قال الذهبي: وثقه غير واحد، وحديثه مخرج في الصحاح، كان من أوعية العلم. مات في شوال سنة إحدى عشرة ومائتين. (وأصله متفق عليه) بين الشيخين.
الحديث: دليل على شرعية الغسل بعد الإسلام، وقوله: أمره يدل على الإيجاب. وقد اختلف العلماء في ذلك:
فعند الهادوية: أنه إذا كان قد أجنب حال كفره، وجب عليه الغسل للجنابة، وإن كان قد اغتسل حال كفره، فلا حكم له، وحديث: "الإسلام يجب ما قبله" لا يوافق هذا القول.
وعند الحنفية: أنه إن كان قد اغتسل حال كفره فلا غسل عليه.
وعند الشافعية، وغيرهم: لا يجب عليه الغسل بعد إسلامه للجنابة؛ للحديث المذكور، وهو: "إن الإسلام يجب ما قبله"، وأما إذا لم يكن أجنب حال كفره، فإنه يستحب له الاغتسال، لا غيره.
أما عند أحمد فقال: يجب عليه مطلقاً؛ لظاهر حديث الكتاب، ولما أخرجه أبو داود من حديث قيس بن عاصم قال: "أتيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أريد الإسلام، فأمرني أن أغتسل بماء وسدر" وأخرجه الترمذي، والنسائي بنحوه.
وعن أبي سعيد الخدْرِيِّ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "غُسْلُ الجُمُعةِ واجب على كُلِّ مُحْتَلمٍ". أخرَجَهُ السّبعَةُ.
وعن أبي سعيد الخدْرِيِّ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "غُسْلُ الجُمُعةِ واجب على كُلِّ مُحْتَلمٍ". أخرَجَهُ السّبعَةُ.
هذا دليل داود في إيجابه غسل الجمعة، والجمهور يتأولونه بما عرفت قريباً، وقد قيل: إنه كان للإيجاب أول الأمر بالغسل؛ لما كانوا فيه من ضيق الحال، وغالب لباسهم الصوف، وهم في أرض حارة الهواء، فكانوا يعرقون عند الاجتماع لصلاة الجمعة، فأمرهم صلى الله عليه وآله وسلم ـــ بالغسل، فلما وسع الله عليهم، ولبسوا القطن، رخص لهم في ذلك.
وعن سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنهُ قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الجُمعَةِ فبهَا وَنِعْمَتْ، ومَنْ اغْتَسَلَ فالْغُسْلُ أَفْضَلُ". رواه الخمْسَةُ وحسّنهُ الترمذيُّ.
(وعن سمرة) تقدم ضبطه (ابن جندب) بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال المهملة بعدها موحدة، هو أبو سعيد في أكثر الأقوال. سمرة بن جندب الفزاري حليف الأنصار، نزل الكوفة، وولي البصرة، وعداده في البصريين، كان من الحفاظ المكثرين بالبصرة. مات اخر سنة تسع وخمسين (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ تَوَضأ يَوْمَ الجُمُعة فبها) أي بالسنة أخذ (ونعمتْ) السنة، أو بالرخصة أخذ ونعمت؛ لأن السنة الغسل. أو بالفريضة أخذ، ونعمت الفريضة؛ فإن الوضوء هو الفريضة (ومن اغتسل فالغسل أفْضَلُ" رواه الخمسة، وحسنه الترمذي) ، ومن صحّح سماع الحسن من سمرة قال: الحديث صحيح، وفي سماعه منه خلاف.
والحديث: دليل على عدم وجوب الغسل، وهو كما عرفت دليل الجمهور على ذلك، وعلى تأويل حديث الإيجاب، إلا أنّ فيه سؤالاً، وهو: أنه كيف يفضّل الغسل ــــ وهو سنة ــــ على الوضوء ــــ وهو فريضة ــــ والفريضة أفضل إجماعاً.
والجواب: أنه ليس التفضيل على الوضوء نفسه، بل على الوضوء الذي لا غسل معه، كأنه قال: مَنْ توضأ، واغتسل، فهو أفضل ممن توضأ فقط. ودلّ لعدم الفرضية أيضاً حديث مسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع، وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام".
ولداود أن يقول: هو مقيد بحديث الإيجاب. فالدليل الناهض حديث سمرة، وإن كان حديث الإيجاب أصح، فإنه أخرجه السبعة، بخلاف حديث سمرة، فلم يخرجه الشيخان؛ فالأحوط للمؤمن أن لا يترك غسل الجمعة. وفي الهدي النبوي: الأمر بالغسل يوم الجمعة مؤكد جداً، ووجوبه أقوى من وجوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوب الوضوء من مس النساء، ووجوبه من مس الذكر، ووجوبه من القهقهة في الصلاة، ومن الرعاف، ومن الحجامة، والقيء.
وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُقرِئُنا القُران ما لم يكنْ جُنُباً. روَاهُ أحمد والخمْسة، وهَذَا لَفظُ الترْمِذِيِّ وحسّنَهُ، وصحّحهُ ابنُ حِبّان.
(وعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرئنا القران ما لم يكن جُنُباً. رواه أحمد والخمسة).
هكذا في نسخ بلوغ المرام. والأولى: والأربعة وقد وجد في بعضها. كذلك (وهذا لفظ الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان) ، وذكر المصنف في التلخيص: أنه حكم بصحته الترمذي، وابن السكن، وعبد الحق، والبغوي، وروى ابن خزيمة بإسناده عن شعبة أنه قال: هذا الحديث ثلث رأس مالي، وما أحدِّث بحديث أحسن منه. وأما قول النووي: خالف الترمذيَّ الأكثرون فضعفوا هذا الحديث، فقد قال المصنف: إنّ تخصيصه للترمذي بأنه صححه: دليل على أنه لم يَرَ تصحيحه لغيره، وقد قدّمنا من صحّحه غير الترمذي، وروى الدارقطني عن علي موقوفاً: "اقرأوا القران ما لم تصب أحدكم جنابة، فإن أصابته فلا، ولا حرفاً"، وهذا يعضد حديث الباب.
إلا أنه قال ابن خزيمة: لا حجة في الحديث لمن منع الجنب من القراءة؛ لأنه ليس فيه نهي؛ وإنما هي حكاية فعل، ولم يبيّن صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه إنما امتنع عن ذلك لأجل الجنابة. وروى البخاري عن ابن عباس: "أنه لم ير بالقراءة للجنب بأساً"، والقول به رواية: "لم يكن يحجب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أو يحجزه عن القران شيء سوى الجنابة" أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبزار، والدارقطني، والبيهقي: أصرح في الدليل على تحريم القراءة على الجنب من حديث الباب: غير ظاهر؛ فإن الألفاظ كلها إخبار عن تركه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم القران حال الجنابة، ولا دليل في الترك على حكم معين.
وتقدم حديث عائشة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يذكر الله على كل أحيانه"، وقدّمنا أنه مخصص بحديث علي عليه السلام هذا، ولكن الحق أنه لا ينهض على التحريم، بل يحتمل أنه ترك ذلك حال الجنابة للكراهة، أو نحوها، إلا أنه أخرج أبو يعلى من حديث علي عليه السلام قال: "رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ، ثم قرأ شيئاً من القران، ثم قال هكذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا، ولا اية". قال الهيثمي: رجاله موثقون، وهو يدل على التحريم؛ لأنه نهي، وأصله ذلك، ويعاضد ما سلف.
وأما حديث ابن عباس مرفوعاً: "لو أن أحدكم إذا أتى أهله فقال: بسم الله" الحديث، فلا دلالة فيه على جواز القراءة للجنب؛ لأنه يأتي بهذا اللفظ غير قاصد للتلاوة، ولأنه قبل غشيانه أهله وصيرورته جنباً. وحديث ابن أبي شيبة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا غشى أهله فأنزل قال: اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتني نصيباً" ليس فيه تسمية، فلا يرد به إشكال.
وعنْ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنهُ قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا أَتَى أَحَدُكُم أهْلَهُ، ثمَّ أرادَ أنْ يَعُود فَلْيَتَوَضَأَ بَيْنَهُمَا وُضُوءاً". رواه مسلم.
زادَ الْحَاكِمُ: "فإنّهُ أَنْشَطُ لِلعَوْدِ".
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود) إلى إتيانها (فليتوضأ بينهما وضوءاً) كأنه أكده؛ لأنه قد يطلق على غسل بعض الأعضاء، فأبان التأكيد أنه أراد به الشرعي، وقد ورد في رواية ابن خزيمة، والبيهقي: "وضوءه للصلاة". (رواه مسلم، زاد الحاكم) عن أبي سعيد (فإنه أنشط للعود).
فيه دلالة على شرعية الوضوء لمن أراد معاودة أهله، وقد ثبت أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم غشي نساءه، ولم يحدث وضوءاً بين الفعلين. وثبت أنه اغتسل بعد غشيانه عند كل واحدة، فالكل جائز.
وللأربعة عَنْ عائشة رضي الله عنهَا قالَتْ: "كانَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَنَامُ وهو جُنُبٌ، مِنْ غيرِ أنْ يمسَّ ماءً". وَهُو مَعْلُولٌ.
بيّن المصنف العلة: أنه من رواية أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة. قال أحمد: على أنه ليس بصحيح. وقال أبو داود: وهم.
ووجهه: أن أبا إسحاق لم يسمعه من الأسود، وقد صححه البيهقي، وقال: إن أبا إسحاق سمعه من الأسود، فبطل القول بأنه أجمع المحدثون: أنه خطأ من أبي إسحاق. قال الترمذي: وعلى تقدير صحته، فيحتمل أن المراد لا يمس ماء الغسل. قلت: فيوافق أحاديث الصحيحين، فإنها مصرحة بأنه يتوضأ، ويغسل فرجه لأجل النوم، والأكل، والشرب، والجماع.
وقد اختلف العلماء: هل هو واجب أو غير واجب؟ فالجمهور قالوا: بالثاني؛ لحديث الباب هذا، فإنه صريح أنه لا يمس ماء، وحديث طوافه على نسائه بغسل واحد. كذا قيل. ولا يخفى أنه ليس فيه على المدعي هنا دليل.
وذهب داود، وجماعة: إلى وجوبه لورود الأمر بالغسل عند مسلم: "ليتوضأ ثم لينم". وفي البخاري: "اغسل فرجك ثم توضأ" وأصله الإيجاب وتأوله الجمهور: أنه للاستحباب جمعاً بين الأدلة، ولما رواه ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما من حديث ابن عمر: "أنه سأل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، ويتوضأ إن شاء". وأصله في الصحيحين، دون قوله: "إن شاء" إلا أن تصحيح من ذكرها، وإخراجها في الصحيح من كتابه كاف في العمل، ويؤيد حديث "ولا يمس ماء"، ولا يحتاج إلى تأويل الترمذي، ويعضد الأصل، وهو عدم وجوب الوضوء على من أراد النوم جنباً، كما قاله الجمهور.
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنْهَا قَالَتْ: "كانَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ يَبْدَأُ فيَغْسل يَدَيْهِ، ثمَّ يُفْرِغُ بيمِينِه على شِمَالِه، فيَغْسِلُ فَرْجَهُ، ثمَّ يَتَوَضَّأُ، ثم يأخُذُ الماءَ، فَيُدْخِلُ أصابِعَهُ في أُصُولِ الشّعْرِ، ثمَّ حَفَنَ على رأسِهِ ثلاثَ حَفَناتٍ، ثمَّ أفَاضَ على سائرِ جَسَدِهِ، ثمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ" متفقٌ عليه، واللّفظُ لمُسلمٍ.
ولَهما، مِنْ حديثِ مَيْمُونَةَ: ثُمَّ أفْرغَ على فَرْجِهِ وغَسَلَهُ بِشِمالِه، ثمَّ ضَرَبَ بها الأرْضَ.
وفي رواية: فَمَسَحَها بالتّرابِ، وفي اخرهِ: "ثمَّ أَتَيْتُهُ بالمنْديل، فرَدَّهُ، وفيه: وجَعَلَ يَنْفُضُ الماءَ بِيَدِهِ".
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا اغْتَسَلَ من الجنابة) أي: أراد ذلك (يَبْدَأ فيغسل يدَيْهِ) في حديث ميمونة: "مرتين أو ثلاثاً" (ثم يُفْرغُ) أي: الماء (بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ) في حديث ميمونة: "وضوءه للصلاة" (ثم يأخُذُ الماءَ فيُدْخِلُ أصابعَهُ في أصُول الشّعْر) أي: شعر رأسه، وفي رواية البيهقي: "يخلّل بها شق رأسه الأيمن فيتتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك"، (ثم حَفَنَ على رأسه ثلاث حفَنَات). الحفنة: بالمهملة فنون: ملء الكف، كما في النهاية، وبكسر الحاء، وفتحها كما في القاموس، وفي حديث ميمونة: "ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفيه"، إلا أن أكثر روايات مسلم: ملء كفه بالإفراد (ثم أفاض) أي: الماء (على سائر جسده) أي بقيته. ولفظ حديث: ميمونة "ثم غسل" بدل أفاض (ثم غسل رجليه. متفق عليه واللفظ لمسلم).
(ولهما) أي: الشيخين (من حديث ميمونة) في صفة الغسل من ابتدائه إلى انتهائه، إلّا أن المصنف اقتصر على ما لم يذكر في حديث عائشة فقط: (ثم أفْرَغَ على فرجِه وغسَلَهُ بشماله ثمَّ ضَرَبَ بها الأرض وفي رواية: فمسحها بالتراب وفي اخره: ثم أَتَيْتُه بالمنديل) بكسر الميم وهو معروف (فرَدَّهُ ــــ وفيه: وجعل يَنْفُضُ الماء بيده) وقيل هذا اللفظ في حديثهما: "ثم تنحى عن مقامه ذلك، فغسل رجليه، ثم أتيته إلى اخره".
وهذان الحديثان مشتملان على بيان كيفية الغسل من ابتدائه إلى انتهائه، فابتداؤه غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء إذا كان مستيقظاً من النوم، كما ورد صريحاً، وكان الغسل من الإناء، وقد قيّده في حديث ميمونة مرتين، أو ثلاثاً، ثم غسل الفرج. وفي الشرح: أنّ ظاهره مطلق الغسل، فيكفي مرة واحدة. ودلك الأرض لأجل إزالة الرائحة من اليد، ولم يذكر أنه أعاد غسل الفرج بعد ذلك، مع أنها إذا كانت الرائحة في اليد، فهي باقية في الفرج، هذا ما يفهم من الحديث.
ويدل على أن الماء الذي يطهر به محل النجاسة طاهر مطهّر، وعلى تشريك النية للغسل الذي يزيل النجاسة برفعها الحدث.
واستدلّ به على أن بقاء الرائحة بعد غسل المحل لا يضر. ويدل على أن غسل الجنابة مرة واحدة، هذا كلامه، ويحتمل أنها لم تبقَ رائحة، بل ضرب الأرض؛ لإزالة لزوجة اليد، إن سلم أنها تفارق الرائحة.
وأما وضوءه قبل الغسل: فإنه يحتمل أنه وضوءه للصلاة، وأنه يصح قبل رفع الحدث الأكبر، وأن يكون غسل هذه الأعضاء كافياً عن غسل الجنابة، وأنه تتداخل الطهارتان، وهو رأي زيد بن علي، والشافعي، وجماعة، ونقل ابن بطال الإجماع على ذلك، ويحتمل أنه غسل أعضاء الوضوء للجنابة، وقدمها تشريفاً لها، ثم وضّأها للصلاة، لكن هذا لم ينقل أصلًا، ويحتمل أنه وضّأها للصلاة، ثم أفاض عليها الماء مع بقية الجسد للجنابة، ولكن عبارة: "أفاض الماء على سائر جسده" لا تناسب هذا، إذ هي ظاهرة: أنه أفاضه على ما بقي من جسده مما لم يمسه الماء، فإن السائر: الباقي، لا الجميع. قال في القاموس: والسائر: الباقي، لا الجميع، كما توهّم جماعات. فالحديثان ظاهران في كفاية غسل أعضاء الوضوء مرة واحدة عن الجنابة: وأنه لا يشترط في صحة الوضوء رفع الحدث الأكبر.
ومن قال: لا يتداخلان، وأنه يتوضأ بعد كمال الغسل، لم ينهض له على ذلك دليل. وقد ثبت في سنن أبي داود: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يغتسل ويصلي الركعتين، وصلاة الغداة، ولا يمس ماء"، فبطل القول بأنه ليس في حديث ميمونة، وعائشة: أنه صلى بعد ذلك الغسل، ولا يتمّ الاستدلال بالتداخل، إلا إذا ثبت: أنه صلى بعده. قلنا: قد ثبت في حديث السنن صلاته به. نعم لم يذكر المصنف في وضوء الغسل: أنه مسح رأسه، إلا أن يقال: قد شمله قول ميمونة: "وضوءه للصلاة". وقولها: "ثم أفاض الماء" الإفاضة الإسالة.
وقد استدل به على عدم وجوب الدلك، وعلى أن مسمّى الغسل لا يدخل فيه الدلك لأنها عبرت ميمونة بالغسل، وعبرت عائشة بالإفاضة، والمعنى واحد، والإفاضة لا دلك فيها، فكذلك الغسل.
وقال الماوردي: لا يتم الاستدلال بذلك؛ لأن أفاض: بمعنى غسل، والخلاف في الغسل قائم. هذا.
وأما هل يكرر غسل الأعضاء ثلاثاً عند وضوء الغسل؟ فلم يذكر ذلك في حديث عائشة، وميمونة. قال القاضي عياض: إنه لم يأتِ في شيء من الروايات ذلك.
قال المصنف: بل قد ورد ذلك في رواية صحيحة عن عائشة، وفي قول ميمونة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أخّر غسل الرجلين"، ولم يرد في رواية عائشة.
قيل: يحتمل أنه أعاد غسل رجليه بعد أن غسلهما أولاً للوضوء لظاهر قولها: "توضأ وضوءه للصلاة"، فإنه ظاهر في دخول الرجلين في ذلك:
وقد اختلف العلماء في ذلك: فمنهم من اختار غسلهما أولاً، ومنهم من اختار تأخير ذلك. وقد أخذ منه جواز تفريق أعضاء الوضوء، وقول ميمونة: "ثم أتيته بالمنديل فرده".
فيه دليل على عدم شرعية التنشيف للأعضاء. وفيه أقوال:
الأشهر أنه يستحب تركه.
وقيل: مباح.
وقيل: غير ذلك.
وفيه دلالة على أن نفض اليد من ماء الوضوء لا بأس به، وقد عارضه حديث: "لا تنفضوا أيديكم، فإنها مراوح الشيطان" إلا أنه حديث ضعيف لا يقاوم حديث الباب.
وعن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله تعالى عنها قالت: قُلْتُ: يا رسول الله، إني امْرَأَةٌ أشُدُّ شَعَرَ رأسي، أَفَأَنْقُضُهُ لِغَسْلِ الجَنَابَةِ؟ وفي رواية: والحيْضَةِ؟ قالَ: "لا، إنّما يكفيكِ أنْ تحثِي على رأسِك ثلاثَ حَثَيَاتٍ" رواه مسلمٌ.
وعن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله تعالى عنها قالت: قُلْتُ: يا رسول الله، إني امْرَأَةٌ أشُدُّ شَعَرَ رأسي، أَفَأَنْقُضُهُ لِغَسْلِ الجَنَابَةِ؟ وفي رواية: والحيْضَةِ؟ قالَ: "لا، إنّما يكفيكِ أنْ تحثِي على رأسِك ثلاثَ حَثَيَاتٍ" رواه مسلمٌ.
لكن لفظه: "أشدُّ ضفر رأسي" بدل: "شعره رأسي" وكأنه رواه المصنف بالمعنى، وضفر بفتح الضاد وإسكان الفاء هو المشهور.
والحديث: دليل على أنه لا يجب نقض الشعر على المرأة في غسلها من جنابة، أو حيض، وأنه لا يشترط وصول الماء إلى أصوله، وهي مسألة خلاف:
فعند الهادوية: لا يجب النقض في غسل الجنابة، ويجب في الحيض والنفاس. لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لعائشة: "انقضي شعرك واغتسلي".
وأجيب: بأنه معارض بهذا الحديث.
ويجمع بينهما: بأن الأمر بالنقض للندب، ويجاب: بأن شعر أم سلمة كان خفيفاً، فعلم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه يصل الماء إلى أصوله.
وقيل: يجب النقض إن لم يصل الماء إلى أصول الشعر، وإن وصل لخفة الشعر لم يجب نقضه، أو بأنه إن كان مشدوداً نقض، وإلا لم يجب نقضه؛ لأنه يبلغ الماء أصوله. وأما حديث: "بلوا الشعر وأنقوا البشر" فلا يقوى على معارضة حديث أم سلمة. وأما فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وإدخال أصابعه، كما سلف في غسل الجنابة، ففعله لا يدل على الوجوب، ثم هو في حق الرجال، وحديث أم سلمة في غسل النساء، هكذا حاصل ما في الشرح.
إلا أنه لا يخفى: أن حديث عائشة كان في الحج، فإنها أحرمت بعمرة، ثم حاضت قبل دخول مكة، فأمرها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن تنقض رأسها، وتمشط، وتغتسل، وتهلّ بالحج، وهي حينئذ لم تطهر من حيضها، فليس إلا غسل تنظيف، لا حيض، فلا يعارض حديث أم سلمة أصلاً، فلا حاجة إلى هذه التاويل التي في غاية الركة، فإن خفة شعر هذه دون هذه يفتقر إلى دليل. والقول: بأن هذا مشدود، وهذا خلافه ــــ والعبارة عنهما من الراوي بلفظ النقض ــــ دعوى بغير دليل.
نعم في المسألة حديث واضح: فإنه أخرج الدارقطني في الأفراد، والطبراني، والخطيب في التلخيص، والضياء المقدسي من حديث أنس مرفوعاً: "إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها نقضاً، وغسلته بخطمي وأشنان، وإن اغتسلت من جنابة صبت الماء على رأسها صباً وعصرته" فهذا الحديث مع إخراج الضياء له، وهو يشترط الصحة فيما يخرجه، يثمر الظن في العمل به. ويحمل هذا على الندب لذكر الخطمي والأشنان؛ إذ لا قائل بوجوبهما، فهو قرينة على الندب، وحديث أم سلمة محمول على الإيجاب، كما قال: "إنما يكفيك"، فإذا زادت نقض الشعر كان ندباً.
ويدل لعدم وجوب النقض ما أخرجه مسلم، وأحمد: "أنه بلغ عائشة: أن ابن عمر كان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن. فقالت: يا عجباً لابن عمر: هو يأمر النساء أن ينقضن شعرهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من إناء واحد، فما أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات" وإن كان حديثها في غسلها من الجنابة. وظاهر ما نقل عن ابن عمر: أنه كان يأمر النساء بالنقض في حيض، وجنابة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالتْ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إني لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لحائض ولا جُنُبٍ". رواه أبو داود. وصحّحه ابنُ خزيمةَ.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إني لا أحلُّ المسجد) أي دخوله، والبقاء فيه (لحائض ولا جنب. رواه أبو داود، وصححه ابن خزيمة).
ولا سماع لقول ابن الرفعة: إنَّ في رواته متروكاً؛ لأنه قد ردّ قوله بعض الأئمة.
والحديث دليل على أنه لا يجوز للحائض والجنب دخول المسجد، وهو قول الجمهور، وقال داود، وغيره: يجوز، وكأنه بني على البراءة الأصلية، وأن هذا الحديث لا يرفعها.
وأما عبورهما المسجد، فقيل: يجوز لقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} في الجنب، وتقاس الحائض عليه، والمراد به: مواضع الصلاة.
وأجيب: بأن الآية فيمن أجنب في المسجد فإنه يخرج منه للغسل، وهو خلاف الظاهر، وفيها تأويل اخر.
وعنها ــــ رضي الله عنها ــــ قالت: "كنتُ أغْتَسِلُ أنا ورسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مِنْ إناءٍ واحدٍ، تَخْتَلفُ أيدينا فيه من الجنابة". متفق عليه. وزاد ابنُ حِبّانَ: وتَلْتَقي أيْدينا.
(وعنها) أي: عائشة (قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من إناء واحد تختلف أيدينا فيه) أي: في الاغتراف منه (من الجنابة) بيان لنغتسل (متفق عليه، وزاد ابن حبان: وتلتقي) أي: تلتقي (أيدينا) فيه.
وهو دليل على جواز اغتسال الرجل والمرأة، من ماء واحد، في إناء واحد، والجواز هو الأصل، وقد سلف الكلام في هذا في باب المياه.
وعن أبي هُريرةَ رضيَ الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ تَحْتَ كلّ شعرَةٍ جنابَةً، فاغسِلوا الشّعْرَ، وانْقُوا الْبَشَرَ". رواه أبو داود والترمذيُّ وضعّفاهُ.ولأحمد عن عائشة رضي الله عنها نحوه،وفيه راوٍ مجهولٌ.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إن تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر) ؛ لأنه إذا كان تحته جنابة، فبالأولى أنها فيه، ففرع غسل الشعر على الحكم بأن تحت كل شعرة جنابة (وانقوا البشر. رواه أبو داود، والترمذي، وضعفاه).
لأنه عندهما من رواية الحارث بن وجيه: بفتح الواو فجيم فمثناة تحتية. قال أبو داود: وحديثه منكر؛ وهو ضعيف، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلّا من حديث الحارث، وهو شيخ ليس بذاك. وقال الشافعي: هذا الحديث ليس بثابت. وقال البيهقي: أنكره أهل العلم بالحديث: البخاري وأبو داود وغيرهما.
ولكن في الباب من حديث علي عليه السلام مرفوعاً: "مَنْ ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا، فمن ثم عاديت رأسي، فمن ثم عاديت رأسي ثلاثاً"، وكان يجزه. وإسناده صحيح، كما قال المصنف، ولكن قال ابن كثير في الإرشاد: إن حديث علي هذا من رواية عطاء بن السائب؛ وهو سييء الحفظ، وقال النووي: إنه حديث ضعيف.
قلت: وسبب اختلاف الأئمة في تصحيحه وتضعيفه: أن عطاء بن السائب اختلط في اخر عمره، فمن روى عنه قبل اختلاطه، فروايته عنه صحيحة. ومن روى عنه بعد اختلاطه، فروايته عنه ضعيفة، وحديث علي هذا، اختلفوا: هل رواه قبل الاختلاط، أو بعده؟ فلذا اختلفوا في تصحيحه، وتضعيفه، حتى يتبين الحال فيه. وقيل: الصواب وقفه على عليّ عليه السلام.
والحديث دليل على أنه يجب غسل جميع البدن في الجنابة، ولا يعفى عن شيء منه. قيل: وهو إجماع، إلا المضمضة والاستنشاق ففيهما خلاف. قيل: يجبان؛ لهذا الحديث، وقيل: لا يجبان؛ لحديث عائشة الذي تقدم وميمونة. وحديث إيجابهما هذا غير صحيح، ولا يقاوم ذلك. وأما أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ وضوءه للصلاة، ففعل لا ينهض على الإيجاب. إلا أن يقال: إنه بيان لمجمل، فإن الغسل مجمل في القران، يبينه الفعل.
ولأحْمَدَ عنْ عائِشَةَ رضي الله عنها نَحْوُهُ، وفيهِ رَاوٍ مَجْهُولٍ.
لم يذكر المصنف الحديث في التلخيص، ولا عيّن من فيه، وإذا كان فيه مجهول، فلا تقوم به حجة.
وأحاديث الباب عدتها سبعة عشر.
باب التيمم
التيمم هو اللغة: القصد.
وفي الشرع: القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين، بنية استباحة الصلاة ونحوها.
واختلف العلماء: هل التيمم رخصة أو عزيمة؟
وقيل: هو لعدم الماء عزيمة، وللعذر رخصة.
عن جابر: أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "أُعْطِيتُ خَمْساً، لمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلي: نصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ ليَ الأرضُ مَسْجِداً وطَهُوراً، فأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصلاةُ فَلْيُصَلِّ"، وذكرَ الحديثَ.
(عن جابر) هو إذا أُطلق جابر بن عبد الله (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال) متحدثاً بنعمة الله، ومبيناً لأحكام شريعته: (أُعطِيتُ) حذف الفاعل للعلم به (خَمْساً) أي: خصالاً، أو فضائل، أو خصائص، والاخر يناسبه قوله: (لمْ يُعطهنَّ أحدٌ قبلي) ومعلوم أنه لا يعطاهن أحد بعده، فتكون خصائص له؛ إذ الخاصة ما توجد في الشيء ولا توجد في غيره. ومفهوم العدد غير مراد؛ لأنه قد ثبت أنه أُعْطِىَ أكثر من الخمس، وقد عدها السيوطي في الخصائص، فبلغت الخصائص زيادة على المائتين، وهذا إجمال فصله (نصرت بالرعب) وهو: الخوف (مَسيرةَ شَهْر) أي: بيني وبين العدو مسافة شهر، وأخرج الطبراني: "نصرت بالرعب على عدوي مسيرة شهرين". وأخرج أيضاً تفسير ذلك عن السائب بن يزيد: بأنه شهر خلفي، وشهر أمامي.
قيل: وإنما جعل مسافة شهر؛ لأنه لم يكن بينه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وبين أحد من أعدائه أكثر من هذه المسافة، وهي حاصلة له، وإن كان وحده. وفي كونها حاصلة لأمته خلاف (وجُعلت لي الأرضُ مسْجداً) موضع سجود، ولا يختص به موضع دون غيره، وهذه لم تكن لغيره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كما صرح به في رواية: "وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم"، وفي أخرى: "ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه" وهو نص على أنها لم تكن هذه الخاصية لأحد من الأنبياء قبله (وطهوراً) بفتح الطاء: أي: مطهرة تستباح بها الصلاة.
وفيه دليل، أن التراب يرفع الحدث كالماء، لاشتراكهما في الطهورية، وقد يمنع ذلك، ويقال: الذي له من الطهورية استباحة الصلاة به، كالماء. ويدل على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض. وفي رواية: "وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً" وهو من حديث أبي أمامة عند أحمد، وغيره.
وأما قول من منع من ذلك مستدلاً بقوله في بعض روايات الصحيح: "وجعلت تربتها طهوراً" أخرجه مسلم، فلا دليل فيه على اشتراط التراب؛ لما عرفت في الأصول: من أن ذكر بعض أفراد العام لا يخصص به، ثم هو مفهوم لقب لا يعمل به عند المحققين.
نعم في قوله تعالى في اية المائدة في التيمم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. دليل على أن المراد التراب؛ وذلك أن كلمة من للتبعيض كما قال في الكشاف حيث قال: إنه لا يفهم أحد من العرب قول القائل: مسحت برأسه من الدهن، ومن التراب إلا معنى التبعيض، انتهى. والتبعيض لا يتحقق إلا في المسح من التراب، لا من الحجارة ونحوها (فأيما رجل) هو للعموم في قوة: فكل رجل (أدركته الصلاة فليصل) أي: على كل حال، وإن لم يجد مسجداً، ولا ماء: أي: بالتيمم كما بينته رواية أبي أمامة: "فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فلم يجد ماء: وجد الأرض طهوراً، ومسجداً".
وفي لفظ: "فعنده طهوره ومسجده" وفيه: أنه لا يجب على فاقد الماء تطلبه (وذكر الحديث) أي: ذكر جابر بقية الحديث، فالمذكور في الأصل اثنتان.
ولنذكر بقية الخمس، فالثالثة قوله: "وأحلت لي الغنائم"، وفي رواية: المغانم. قال الخطابي: كان من تقدم، أي: من الأنبياء على ضربين: منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن لهم فيه، ولكن إذا غنموا شيئاً لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته.
وقيل: أجيز لي التصرف فيها بالتنفيل، والاصطفاء، والصرف في الغانمين، كما قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1).
والرابعة قوله: "وأعطيت الشفاعة" قد عد في الشرح الشفاعات اثنتي عشرة شفاعة، واختار أن الكل من حيث هو: مختص به، وإن كان بعض أنواعها يكون لغيره. ويحتمل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أراد بها الشفاعة العظمى، في إراحة الناس من الموقف؛ لأنها الفرد الكامل، ولذلك يظهر شرفها لكل من في الموقف.
والخامسة قوله: "وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة" فعموم الرسالة خاص به صلى الله عليه واله وسلم، فأما نوح فإنه بعث إلى قومه خاصة. نعم صار بعد إغراق من كذب به مبعوثاً إلى الأرض؛ لأنه لم يبق إلا من كان مؤمناً به، ولكن ليس العموم في أصل البعثة. وقيل: غير ذلك.
وبهذا عرفت أنه صلى الله عليه وآله وسلم وآله مختص بكل واحدة من هذه الخمس، لا أنه مختص بالمجموع. وأما الأفراد فقد شاركه غيره فيها، كما قيل، فإنه قول مردود، وفي الحديث فوائد جليلة مبينة في الكتب المطولة.
وكان ينبغي للمصنف أن يقول بعد قوله: وذكر الحديث. متفق عليه: ثم يعطف عليه قوله: وفي حديث حذيفة إلى اخره، لأنه بقي حديث جابر غير منسوب إلى مخرج، وإن كان قد فهم أنه متفق عليه بعطف قوله.
وفي حديثِ حُذَيْفةَ رضي الله عنهُ، عنْدَ مسلم "وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً، إذا لمْ نجدِ المَاءَ".
وفي حديثِ حُذَيْفةَ رضي الله عنهُ، عنْدَ مسلم "وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً، إذا لمْ نجدِ المَاءَ".
هذا القيد قراني معتبر في الحديث الأول، كما بيناه.
وعن علي عِنْدَ أحْمد: "وَجُعلَ التُّرابُ لي طَهُورا".
وعن علي رضي الله عنه عِنْدَ أحْمد: "وَجُعلَ التُّرابُ لي طَهُورا".
هو وما قبله دليل من قال: إنه لا يجزىء إلا التراب، وقد أجيب بما سلف: من أن التنصيص على بعض أفراد العام لا يكون مخصصاً، مع أنه من العمل بمفهوم اللقب، ولا يقوله جمهور أئمة الأصول.
وعن عمّار بنُ ياسرٍ رضي الله عنهُما قالَ: بَعَثَني رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حاجةٍ. فأَجْنَبْتُ، فلم أجدِ الماءَ، فَتَمَرَّغتُ في الصَّعيدِ كما تَتَمرَّغُ الدَّابَةُ، ثمَّ أَتَيْتُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فذَكَرْتُ لهُ ذلكَ. فقالَ: إنّما يكْفيك أن تَقُولَ بيَدَيْكَ هكذا": ثمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأرضَ ضَرْبَةً واحِدةً، ثم مسَحَ الشِّمَال على اليمينِ، وظَاهرَ كَفّيْهِ وَوَجْهَهُ. متفقٌ عليه، واللفظ لمُسلم.
وفي رواية للبخاريِّ: وضَرَبَ بكَفّيْهِ الأرضَ، وَنَفَخَ فيهمَا، ثمَّ مَسَحَ بهمَا وَجْهَهُ وكَفّيْهِ.
(عن عمار) بفتح العين المهملة وتشديد الميم اخره راء، هو أبو اليقظان عمار (بن ياسر) بمثناة تحتية وبعد الألف سين مهملة فراء. أسلم عمار قديماً وعذب في مكة على الإسلام وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وسماه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الطيب والمطيب، وهو من المهاجرين الأولين، شهد بدراً، والمشاهد كلها، وقتل بصفين مع علي عليه السلام، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وهو الذي قال له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "تقتلك الفئة الباغية".
(قال: بعثني رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حاجة فأجنبت) أي: صرت جنباً، وقدمنا أنه يقال: أجنب الرجل صار جنباً. ولا يقال: اجتنب، وإن كثر في لسان الفقهاء (فلم أجد الماء فتمرغت) بفتح المثناة الفوقية والميم وتشديد الراء فغين معجمة، وفي لفظ "فتمعكت" ومعناه: تقلبت (في الصعيد، كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فذكرت له ذلك فقال: إنما كانَ يكفيك أن تقول) أي: تفعل، والقول يطلق على الفعل، كقولهم: قال بيده: هكذا (بيديك هكذا) بينه بقوله: (ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفّيْه وَوَجْهه. متفق عليه) بين الشيخين (واللفظ لمسلم).
استعمل عمار القياس، فرأى أنه لما كان التراب نائباً عن الغسل، فلا بد من عمومه للبدن. فأبان له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الكيفية التي تجزئه، وأراه الصفة المشروعة، وأعلمه أنها التي فرضت عليه.
ودلّ على أنه يكفي ضربة واحدة، ويكفي في اليدين مسح الكفين، وأن الاية مجملة، بيّنها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالاقتصار على الكفين.
وأفاد أن الترتيب بين الوجه والكفين غير واجب، وإن كانت الواو لا تفيد الترتيب، إلا أنه قد ورد العطف في رواية للبخاري للوجه على الكفين بثم، وفي لفظ لأبي داود: "ثم ضرب بشماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه"، وفي لفظ: للإسماعيلي، ما هو أوضح من هذا: "إنما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض، ثم تنفضهما، ثم تمسح بيمينك على شمالك وبشمالك على يمينك، ثم تمسح على وجهك؛ ودل على أن التيمم فرض من أجنب ولم يجد الماء.
وقد اختلف في كمية الضربات، وقدر التيمم في اليدين:
فذهب جماعة من السلف، ومن بعدهم إلى أنها تكفي الضربة الواحدة، وذهب إلى أنها لا تكفي الضربة الواحدة جماعة من الصحابة، ومن بعدهم، وقالوا: لا بد من ضربتين؛ للحديث الاتي قريباً، والذاهبون إلى كفاية الضربة: جمهور العلماء، وأهل الحديث؛ عملاً بحديث عمار، فإنه أصح حديث في الباب، وحديث الضربتين يأتي: أنه لا يقوى على معارضته. قالوا: وكل ما عدا حديث عمار فهو ضعيف، أو موقوف، كما يأتي.
وأما قدر ذلك في اليدين:
فقال جماعة من العلماء، وأهل الحديث: إنه يكفي في اليدين الراحتان، وظاهر الكفين؛ لحديث عمار هذا. وقد رويت عن عمار روايات بخلاف هذا، لكن الأصح ما في الصحيحين. وقد كان يفتي به عمار بعد موت النبي ــــ صلى الله عليه وآله وسلم ــــ: وقال اخرون: إنها تجب ضربتان، ومسح اليدين مع المرفقين، لحديث ابن عمر الاتي؛ ويأتي أن الأصح فيه أنه موقوف، فلا يقاوم حديث عمار المرفوع الوارد للتعليم.
ومن ذلك اختلافهم في الترتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمار كما عرفت قاض بأنه لا يجب، وإليه ذهب من قال: تكفي ضربة واحدة قالوا: والعطف في الاية بالواو لا ينافي ذلك.
وذهب من قال: بالضربتين: إلى أنه لا بد من الترتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليمنى على اليسرى.
وفي حديث عمار: دلالة على أن المشروع هو ضرب التراب. وقال بعدم إجزاء غيره: الهادوية، وغيرهم: لحديث عمار هذا، وحديث ابن عمر الاتي.
وقال الشافعي: يجزىء وضع يده في التراب؛ لأن في إحدى روايتي تيممه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من الجدار: "أنه وضع يده"، (وفي رواية) أي من حديث عمار. (للبخاري، وضَرَبَ بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه) أي: ظاهرهما كما سلف، وهو كاللفظ الأول، إلا أنه خالفه بالترتيب، وزيادة النفخ.
فأما نفخ التراب: فهو مندوب.
وقيل: لا يندب، وسلف الكلام في الترتيب.
وهذا التيمم وارد في كفاية التراب للجنب الفاقد للماء، وقد قاسوا عليه الحائض، والنفساء، وخالف فيه ابن عمر، وابن مسعود. وأما كون التراب يرفع الجنابة، أو لا، فسيأتي في شرح حديث أبي هريرة، وهو حديث مائه وتسعة عشر.
وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهمَا قالَ: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "التّيَمُمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ للْوَجْهِ، وضَرْبَةٌ للْيَدَيْنِ إلى المرْفَقَيْنِ". رواه الدارقطنيُّ، وصَحّحَ الأئمةُ وقْفَهُ.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين: رواه الدارقطني).
وقال في سننه عقب روايته: وقفه يحيى القطان، وهشيم، وغيرهما، وهو الصواب اهـ، ولذا قال المصنف: (وصحح الأئمة وقفه) على ابن عمر. قالوا: وإنه من كلامه، وللاجتهاد مسرح في ذلك، وفي معناه عدة روايات كلها غير صحيحة، بل إما موقوفة، أو ضعيفة، فالعمدة حديث عمار، وبه جزم البخاري في صحيحه فقال: "باب التيمم للوجه والكفين". قال المصنف في الفتح: أي: هو الواجب المجزىء، وأتى بصيغة الجزم في ذلك، مع شهرة الخلاف فيه؛ لقوة دليله، فإن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم، وعمار. وما عداهما فضعيف، أو مختلف في رفعه، ووقفه، والراجح عنده رفعه. فأما حديث أبي جهيم، فورد بذكر اليدين مجملاً. وأما حديث عمار، فورد بلفظ الكفين في الصحيحين، وبلفظ المرفقين في السنن. وفي رواية: إلى نصف الذراع، وفي رواية، إلى الاباط. فأما رواية المرفقين، وكذا نصف الذراع ففيهما مقال.
وأما رواية الاباط، فقال الشافعي، وغيره: إن كان وقع بأمر النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فبكل تيمم صح عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعده، فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره، فالحجة فيما أمر به. ويؤيد رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين: أن عماراً كان يفتي بعد النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولا سيما الصحابي المجتهد.
وعن أبي هُريرة رضيَ الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله: "الصَّعيدُ وَضُوءُ المُسلم، وإن لم يجد الماءَ عشْرَ سنين. فإذا وَجَدَ الماءَ فلْيَتّقِ الله ولْيُمِسَّهُ بشرتَهُ". رواه البزَّارُ وصحّحهُ ابن القطّان، لكنْ صَوَّبَ الدارقطني إرسالَهُ".
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: الصعيد) هو عند الأكثرين التراب. وعن بعض أئمة اللغة: أنه وجه الأرض، تراباً كان، أو غيره، وإن كان صخراً لا تراب عليه. وتقدم الكلام في ذلك. (وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين) فيه: دليل على تسمية التيمم وضوءاً (فإذا وَجَدَ) أي المسلم (الماء فليتق الله ولْيُمِسه بشرته. رواه البزار، وصححه ابن القطان). تقدم الكلام على ضبط ألفاظهما والتعريف بحالهما (لكن صوب الدارقطني إرساله) قال الدارقطني في كتاب العلل: إرساله أصح.
وفي قوله: "إذا وجد الماء" دليل على أنه إن وجد الماء وجب إمساسه بشرته، وتمسك به من قال: إن التراب لا يرفع الحدث، وإن المراد: أن يمسه بشرته لما سلف من جنابة، فإنها باقية عليه، وإنما أباح له التراب الصلاة، لا غير، وإذا فرغ منها عاد عليه حكم الجنابة؛ ولذا قالوا: لا بد لكل صلاة من تيمم. واستدلوا بحديث عمرو بن العاص؛ وقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له: "أصليت بأصحابك وأنت جنب؟"، وقول الصحابة له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إن عمراً صلى بهم وهو جنب، فأقرهم على تسميته جنباً. ومنهم من قال: "إن التراب حكمه حكم الماء يرفع الجنابة، ويصلي به ما شاء، وإذا وجد الماء لم يجب عليه أن يمسه إلا للمستقبل من الصلاة، واستدلوا: بأنه تعالى جعله بدلاً من الماء، فحكمه حكمه، وبأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سماه طهوراً، وسماه وضوءاً، كما سلف قريباً.
والحق أن التيمم يقوم مقام الماء، ويرفع الجنابة رفعاً مؤقتاً إلى حال وجدان الماء؛ أما أنه قائم مقام الماء، فلأنه تعالى جعله عوضاً عنه عند عدمه، والأصل أنه قائم مقامه في جميع أحكامه، فلا يخرج عن ذلك إلا بدليل. وأما أنه إذا وجد الماء اغتسل؛ فلتسميته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عمراً جنباً، ولقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "فإذا وجد الماء فليتق الله"، فإن الأظهر أنه أمر بإمساسه الماء لسبب قد تقدم على وجدان الماء؛ إذ إمساسه لما يأتي من أسباب وجوب الغسل، أو الوضوء، معلوم من الكتاب والسنة، والتأسيس خير من التأكيد.
وللترْمذيِّ عنْ أبي ذَرٍّ نَحْوُهُ، وصححهُ.
(وللترمذي عن أبي ذر) بذال معجمة مفتوحة فراء، اسمه جندب بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة وفتحها أيضاً، ابن جنادة بضم الجيم وتخفيف النون بعد الألف دال مهملة. وأبو ذر من أعيان الصحابة، وزهّادهم، والمهاجرين؛ وهو أول من حيّا النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بتحية الإسلام، وأسلم قديماً بمكة يقال: كان خامساً في الإسلام، ثم انصرف إلى قومه: إلى أن قدم المدينة على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد الخندق، ثم سكن بعد وفاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الربذة، إلى أن مات بها سنة اثنتين وثلاثين، في خلافة عثمان، وصلى عليه ابن مسعود، ويقال: إنه مات بعده بعشرة أيام (نحوُه) أي: نحو حديث أبي هريرة، ولفظه: "قال أبو ذر: اجتويت المدينة، فأمر لي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بإبل، فكنت فيها، فأتيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، فقلت: هلك أبو ذر، قال ما حالك؟ قلت: كنت أتعرض للجنابة، وليس قربي ماء. قال: الصعيد طهور لمن لم يجد الماء، ولو عشر سنين" (وصححه) أي: حديث أبي ذر الترمذي، قال المصنف في الفتح: إنه صححه أيضاً ابن حبان، والدارقطني.
وعنْ أبي سعيدٍ الْخُدْري رضي الله عنه قالَ: خرَجَ رجُلانِ في سَفَرٍ، فَحَضَرتِ الصَّلاةُ ــــ وليسَ مَعهُمَا ماءٌ ــــ فتَيمّما صَعيداً طَيِّباً، فصَلّيا، ثمَّ وَجَدَا الماءَ في الوقْتِ. فأعادَ أحَدُهُمَا الصلاة والوُضُوءَ، ولمْ يُعِدِ الاخَرُ، ثمَّ أتَيَا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فذكرا ذلك لهُ، فقالَ للذي لمْ يُعِدْ: "أصَبْتَ السُّنّةَ وأجْزأَتْكَ صلاتُكَ" وقالَ لِلآخَرِ: "لَكَ الأجْرُ مَرَّتَيْنِ". رواه أبو داود، والنّسائيُّ.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رجلان في سفر وليس معهما ماء فحضرت الصلاة فتيمما صعيداً طيباً) هو الطاهر الحلال، وقد قيّد الله الصعيد به في الايتين في القران، فإطلاقه في حديث أبي هريرة مقيد بالايات، والأحاديث (فصليا ثم وجدا الماء في الوقت) أي: وقت الصلاة التي صليا (فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء) سماه إعادة تغليباً، وإلا فلم يكن قد توضأ، أو سمي التيمم وضوءاً مجازا (ولم يعد الاخر، ثم أتيا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: "أصَبْتَ السُّنة") أي: الطريقة الشرعية (وأجْزَأتْكَ صلاتُك) لأنها وقعت في وقتها، والماء مفقود، فالواجب التراب (وقال للاخر) الذي أعاد: (لَكَ الأجْرُ مرَّتين) أجر الصلاة بالتراب، وأجر الصلاة بالماء (رواه أبو داود، والنسائي).
وفي مختصر السنن للمنذري: أنه أخرجه النسائي مسنداً، ومرسلاً. وقال أبو داود: إنه مرسل عن عطاء بن يسار. لكن قال المصنف: هذه الرواية رواها ابن السكن في صحيحه، وله شاهد من حديث ابن عباس، رواه إسحاق في مسنده: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بال، ثم تيمم، فقيل له: إن الماء قريب منك، قال: فلعلي لا أبلغه".
والحديث دليل على جواز الاجتهاد في عصره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وعلى أنه لا يجب الطلب والتلوم له: أي الانتظار، ودل على أنه لا تجب الإعادة على من صلى بالتراب، ثم وجد الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة.
وقيل: بل يعيد الواجد في الوقت؛ لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته". وهذا قد وجد الماء.
وأجيب: بأنه مطلق فيمن وجد الماء بعد الوقت، وقبل خروجه، وحال الصلاة، وبعدها. وحديث أبي سعيد هذا فيمن لم يجد الماء في الوقت حال الصلاة، فهو مقيد فيحمل عليه المطلق، فيكون معناه: فإذا وجدت الماء قبل الصلاة في الوقت فأمسه بشرتك، أي: إذا وجدته، وعليك جنابة متقدمة، فيقيد به، كما قدمنا.
واستدل القائل بالإعادة في الوقت: بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى  أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـ كِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} والخطاب متوجه مع بقاء الوقت.
وأجيب: بأنه بعد فعل الصلاة لم يبق للخطاب توجه إلى فاعلها، كيف؟ وقد قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "وأجزأتك صلاتك" للذي لم يعد، إذ الإجزاء: عبارة عن كون الفعل مسقطاً لوجوب إعادة العبادة، والحق أنه قد أجزأه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهمَا: في قوله عزَّ وجلَّ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} قال: إذا كانتْ بالرَّجُل الجراحَةُ في سبيلِ الله والقرُوحُ، فيجنِبُ، فيخافُ أن يموت إن اغتسل، تيمم. روَاهُ الدارقطني مَوْقُوفاً، ورَفَعَهُ البَزَّارُ، وصححهُ ابنُ خُزَيْمَةَ، والحاكِمُ.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} قال: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله) أي: الجهاد (والقروح) جمع قرح، وهي: البثور التي تخرج من الأبدان، كالجدري، ونحوه (فيجنب) تصيبه الجنابة (فيخاف) يظن (أن يموت إن اغتسل تيمم، رواه الدارقطني موقوفاً) على ابن عباس (ورفعه) إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (البزار، وصححه ابن خزيمة، والحاكم). وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: أخطأ فيه علي بن عاصم. وقال البزار: لا نعلم من رفعه عن عطاء من الثقات إلا جريراً. وقد قال ابن معين: إنه سمع من عطاء بعد الاختلاط، وحينئذ فلا يتم رفعه.
وفيه دليل على شرعية التيمم في حق الجنب إن خاف الموت. فأما لو لم يخف إلا الضرر، فالاية وهي قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} دالة على إباحة المرض للتيمم، سواء خاف تلفه، أو دونه، والتنصيص في كلام ابن عباس على الجراحة، والقروح، إنما هو مجرد مثال. وإلا فكل مرض كذلك. ويحتمل أن ابن عباس يخص هذين من بين الأمراض، وكذلك كونها في سبيل الله مثال. فلو كانت الجراحة من سقطة، فالحكم واحد، وإذا كان مثالاً، فلا ينفي جواز التيمم لخشية الضرر، إلا أن قوله: "أن يموت" يدل على أنه لا يجزىء التيمم إلا مخافة الموت، وهو قول أحمد، وأحد قولي الشافعي.
وأما الهادوية، ومالك، وأحد قولي الشافعي، والحنفية، فأجازوا التيمم؛ لخشية الضرر، قالوا: لإطلاق الاية. وذهب داود، والمنصور: إلى إباحته للمرض، وإن لم يخف ضرراً، وهو ظاهر الآية.
وعن عليٍّ رضي الله عنهُ قالَ: انْكَسَرَتْ إحدى زَنْديَّ فسألْتُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فأمَرَنِي أنْ أمْسحَ على الجبائر. رواهُ ابنُ ماجَه بسَنَدٍ واهٍ جداً.
(وعن علي عليه السلام قال: انكسرت إحدى زنديَّ) بتشديد المثناة التحتية تثنية زند، وهو مفصل طرف الذراع في الكف (فسألت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) ، أي: عن الواجب من الوضوء في ذلك (فأمَرَني أنْ أمْسَحَ على الجبائر) هي ما يجبر به العظم المكسور ويلف عليه (رواه ابن ماجه بسند واه جداً) بكسر الجيم وتشديد الدال المهملة، وهو منصوب على المصدر، أي أجد ضعفه جداً. الجد: التحقيق، كما في القاموس، فالمراد أحقق ضعفه تحقيقاً. والحديث أنكره يحيى بن معين، وأحمد، وغيرهما، قالوا: وذلك أنه من رواية عمرو بن خالد الواسطي، وهو كذاب. ورواه الدارقطني، والبيهقي من طريقين أوهى منه. قال النووي: اتفق الحفاظ على ضعف هذا الحديث. وقال الشافعي: لو عرفت إسناده بالصحة لقلت به، وهذا مما أستخير الله فيه. وفي معناه أحاديث أخر. قال البيهقي: إنه لا يصح منها شيء، إلا أنه يقويه قوله:
وعن جابرٍ رضي الله عنه ــــ في الرَّجُلِ الذي شُجَّ، فاغْتَسل فمات ــــ "إنَّمَا كان يَكفيهِ أن يتيمّمَ، ويَعْصِبَ على جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثمَّ يَمْسَحُ علَيْهَا ويغْسِلُ سَائِرَ جَسَدِهِ" رواه أبو داود بسَنَدٍ ضعيفٍ وفيهِ اختلافٌ على روايه.
(وعن جابر رضي الله عنه في الرجل الذي شج) بضم الشين المعجمة وجيم، من شجه يشجه بكسر الشين وضمها: كسره، كما في القاموس (فاغتسل فمات: إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثمَّ يمسح عليها، ويغسل سائر جسده، رواه أبو داود بسند ضعيف).
لأنه تفرد به الزبير بن خريق: بضم الخاء المعجمة فراء مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وقاف. قال الدارقطني: ليس بالقوي.
قلت: وقال الذهبي: إنه صدوق (وفيه اختلاف على راويه) وهو: عطاء، فإنه رواه عنه الزبير بن خريق، عن جابر.
ورواه عنه الأوزاعي بلاغاً عن عطاء، عن ابن عباس. فالاختلاف وقع في رواية عطاء، هل عن جابر، أو عن ابن عباس؟ وفي إحدى الروايتين ما ليس في الأخرى.
وهذا الحديث، وحديث علي الأول: قد تعاضدا على وجوب المسح على الجبائر بالماء، وفيه خلاف بين العلماء. منهم من قال: يمسح لهذين الحديثين، وإن كان فيهما ضعف، فقد تعاضدا، ولأنه عضو تعذر غسله بالماء، فمسح ما فوقه كشعر الرأس، وقياساً على مسح أعلى الخفين، وعلى العمامة، وهذا القياس يقوي النص.
قلت: من قال بالمسح عليهما قوي عنده المسح على الجبائر، وهو الظاهر.
ثم في حديث جابر دليل على أنه يجمع بين التيمم، والمسح، والغسل، وهو مشكل، حيث جمع بين التيمم والغسل.
قيل: فيحمل على أن أعضاء الوضوء كانت جريحة، فتعذر إمساسها بالماء، فعدل إلى التيمم، ثم أفاض الماء على بقية جسده. وأما الشجة: فقد كانت في الرأس، والواجب فيه الغسل، لكن تعذر لأجل الشجة، فكان الواجب عليه عصبها، والمسح عليها، إلا أنه قال المصنف في التلخيص: إنه لم يقع في رواية عطاء عن ابن عباس ذكر التيمم، فثبت: أن الزبير بن خريق تفرّد به، نبّه على ذلك ابن القطان، ثم قال: ولم يقع في رواية عطاء ذكر المسح على الجبيرة، فهو من إفراد الزبير.
قال: ثم سياق المصنف لحديث جابر يدل على أن قوله: إنما كان يكفيه، غير مرفوع، وهو مرفوع، وإنما لما اختصره المصنف فاتته العبارة الدالة على رفعه، وهو حديث فيه قصة.
ولفظها عند أبي داود عن جابر قال: "خرجنا في سفر؛ فأصاب رجلاً منا حجر، فشجّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات فلما قدمنا على رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب، أو يعصب ــــ شك موسى ــــ على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده" إلى اخره.
وعن ابْنِ عباسٍ رضي الله تعالى عنهما قالَ: "مِنَ السُّنّةِ أنْ لا يُصَلِّيَ الرَّجُلُ بالتّيَمُّم إلا صلاة واحدةً، ثمَّ يتَيَمّمُ للصلاة الأخْرَى". رواهُ الدارقطني بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من السُّنة) أي: سنة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، والمراد: طريقته وشرعه (أن لا يُصلِّي الرَّجُلُ) والمرأة أيضاً (بالتيمم إلا صَلاةً واحدةً ثمَّ يتيمم للصَّلاة الأخرى. رواه الدارقطني بإسناد ضعيف) لأنه من رواية الحسن بن عمارة وهو ضعيف (جداً) نصب على المصدر، كما عرفت.
وفي الباب عن علي رضي الله عنه، وابن عمر حديثان ضعيفان.
وإن قيل: إن أثر ابن عمر أصح، فهو موقوف، فلا تقوم بالجميع حجة. والأصل: أنه تعالى قد جعل التراب قائماً مقام الماء. وقد علم أنه لا يجب الوضوء بالماء إلا من الحدث، فالتيمم مثله، وإلى هذا ذهب جماعة من أئمة الحديث، وغيرهم، وهو الأقوم دليلاً.
باب الحيض
الحيض: مصدر حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً فهي حائض، ولما كانت له أحكام شرعية، من أفعال، وتروك: عقد له المصنف باباً ساق فيه ما ورد فيه من أحكامه.
عَنْ عَائشةَ رضيَ الله عنهَا: أنَّ فاطمة بنتَ أبي حُبيشٍ كانت تُسْتَحَاضُ، فقالَ لها رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن دمَ الحَيْضِ دمٌ أسْوَدُ يُعْرفُ، فإذا كانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكي عَنِ الصلاةِ، فإذا كانَ الاخَرُ فَتَوَضَّئي وصَلِّي" رواهُ أبو داود والنسائيُّ، وصححه ابنُ حِبّانَ، والحاكم، واستنكرهُ أبو حاتم.
(عن عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة بنت أبي حبيش) تقدم ضبطه في أول باب النواقض (كانت تستحاض) تقدم أن الاستحاضة: جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه، وتقدم فيه: "أن فاطمة جاءت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقالت: إني امرأة أستحاض، فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟" (فقال لها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ دمَ الحيض دمٌ أسْوَدٌ يُعْرَفُ") بضم حرف المضارعة وكسر الراء: أي له عرف ورائحة، وقيل: بفتح الراء: أي تعرفه النساء (فإذا كان ذلكَ) بكسر الكاف (فأمْسكي عن الصَّلاة. فإذا كانَ الاخَرُ) أي: الذي ليس بتلك الصفة (فتوضَّئي وصَلي" رواه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم، واستنكره أبو حاتم) ؛ لأنه من حديث عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، وجده: لا يعرف، وقد ضعف الحديث أبو داود.
وهذا الحديث فيه ردّ المستحاضة إلى صفة الدم: بأنه إذا كان بتلك الصفة فهو حيض، وإلا فهو استحاضة، وقد قال به الشافعي في حق المبتدأة. وقد تقدم في النواقض أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لها: "إنما ذلك عرق، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي"، ولا ينافيه هذا الحديث، فإنه يكون قوله: "إن دم الحيض أسود يعرف"، بياناً لوقت إقبال الحيضة وإدبارها.
فالمستحاضة إذا ميزت أيام حيضها: إما بصفة الدم، أو بإتيانه في وقت عادتها إن كانت معتادة، وعلمت بعادتها، ففاطمة هذه يحتمل أنها كانت معتادة، فيكون قوله: "فإذا أقبلت حيضتك" أي: بالعادة، أو غير معتادة، فيراد بإقبال حيضتها بالصفة، ولا مانع من اجتماع المعرفين في حقها، وحق غيرها.
هذا، وللمستحاضة أحكام خمسة، قد سلفت إشارة إلى الوعد بها.
منها: جواز وطئها في حال جريان دم الاستحاضة عند جماهير العلماء؛ لأنها كالطاهر في الصلاة والصوم وغيرهما، وكذا في الجماع، ولأنه لا يحرم إلا عن دليل، ولم يأت دليل بتحريم جماعها. قال ابن عباس: المستحاضة يأتيها زوجها إذا صلت، الصلاة أعظم.
يريد: إذا جازت لها الصلاة ودمها جار، وهي أعظم ما يشترط له الطهارة، جاز جماعها. ومنها: أنها تؤمر بالاحتياط في طهارة الحدث والنجس، فتغسل فرجها قبل الوضوء، وقبل التيمم، وتحشو فرجها بقطنة أو خرقة؛ دفعاً للنجاسة وتقليلاً لها، فإن لم يندفع الدم بذلك شدّت مع ذلك على فرجها، وتلجّمت، واستثفرت، كما هو معروف في الكتب المطولة، وليس بواجب عليها، وإنما هو الأولى؛ تقليلاً للنجاسة بحسب القدرة، ثم تتوضأ بعد ذلك.
ومنها: أنه ليس لها الوضوء قبل دخول وقت الصلاة عند الجمهور؛ إذ طهارتها ضرورية، فليس لها تقديمها قبل وقت الحاجة.
وفي حديثِ أسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ عِنْدَ أبي داود: "وَلْتَجْلِسْ في مِرْكَنٍ فإذا رأتْ صُفْرَةً فَوْقَ الماءِ فَلْتَغْتَسِلْ للظّهْرِ والْعَصْرِ غُسْلاً واحداً، وَتَغْتَسِلُ للمغْرب والعشَاءِ غُسْلاً واحداً. وتَغْتَسِلُ للفجرِ غُسْلاً واحداً، وتتَوضَّأُ فيما بين ذلك".
(وفي حديث أسماء بنت عميس) بضم المهملة وفتح الميم وسكون المثناة التحتية فسين مهملة. هي امرأة جعفر، هاجرت معه إلى أرض الحبشة، وولدت له هناك أولاداً. منهم عبد الله، ثم لما قتل جعفر تزوجها أبو بكر الصديق، فولدت له محمداً، ولما مات أبو بكر تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فولدت له يحيى (عند أبي داود: ولتجلس) هو عطف على ما قبله في الحديث؛ لأن المصنف إنما ساق شطر حديث أسماء، لكن في لفظ أبي داود عنها هكذا: "سبحان الله هذا من الشيطان لتجلس" إلى اخره بدون واو. وفي نسخة في بلوغ المرام: (في مِركن) بكسر الميم: الإجانة التي تغسل فيها الثياب (فإذا رأت صُفْرَةً فَوْقَ الماء) الذي تقعد فيه، فتصب عليها الماء، فإنها تظهر الصفرة فوق الماء (فلْتغتسلْ للظُّهر والعَصْر غُسْلاً واحداً وتغتسل للمغرب والعشاء غُسْلاً واحداً، وتغتسلُ للفجر غُسْلاً واحداً، وتتوضأ فيما بين ذلك).
هذا الحديث، وحديث حمنة الاتي فيه الأمر بالاغتسال في اليوم والليلة ثلاث مرات. وقد بيّن في حديث حمنة، أن المراد: إذا أخّرت الظهر والمغرب، ومفهومه: أنها إذا وقتت اغتسلت لكل فريضة، وقد اختلف العلماء:
فروي عن جماعة من الصحابة والتابعين: أنه يجب عليها الاغتسال لكل صلاة.
وذهب الجمهور إلى أنها لا يجب عليها ذلك. وقالوا: رواية: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمرها بالغسل لكل صلاة" ضعيفة، وبيّن البيهقي ضعفها. وقيل: بل هو حديث منسوخ: بحديث فاطمة بنت أبي حبيش: "أنها توضأت لكل صلاة".
قلت: إلا أن النسخ يحتاج إلى معرفة المتأخر، ثم إنه قال المنذري: إنّ حديث أسماء بنت عميس حسن، فالجمع بين حديثها وحديث فاطمة بنت أبي حبيش أن يقال: إن الغسل مندوب بقرينة عدم أمر فاطمة به، واقتصاره على أمرها بالوضوء، فالوضوء هو الواجب، وقد جنح الشافعي إلى هذا.
وعن حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قالت: كُنْتُ أُسْتحاضُ حَيْضَةً كثيرةً شديدةً، فأَتَيْتُ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَسْتَفْتِيهِ، فقَالَ: "إنما هِيَ رَكْضَةٌ منَ الشّيطان، فَتَحيّضي ستّةَ أيامٍ، أوْ سَبْعَةَ أيّامٍ، ثمَّ اغْتسِلي، فإذا اسْتَنْقأتِ فصَلي أربعةً وعشرين، أو ثلاثةً وعشرينَ، وصومي وصلِّي، فإنَّ ذلك يُجْزِئُك، وكذلك فافعلي كما تحيضُ النساءُ، فإنْ قَوِيتَ على أنْ تُؤخِّري الظُّهر وتُعَجلي العَصْرَ، ثمَّ تَغْتَسِلي حين تَطْهُرين، وتُصلي الظهرَ والْعَصْرَ جميعاً، ثم تُؤخِّرين المغْرِبَ والعِشَاءَ، ثمَّ تَغْتَسِلينَ وَتجمَعين بينَ الصَّلاتينِ، فافْعَلِي. وتَغْتَسلينَ مَعَ الصُّبْحِ وتُصَلينَ. قال: وَهُوَ أَعْجبُ الأمرين إليَّ". رواه الخمسة إلا النّسائيُّ، وصحّحهُ الترمذيُّ، وحسّنهُ البُخاري.
(وعن حمنة) بفتح الحاء المهملة وسكون الميم فنون (بنت جحش) بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة فشين معجمة، هي أخت زينب أم المؤمنين، وامرأة طلحة بن عبيد الله (قالت: كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة). في سنن أبي داود: بيان لكثرتها قالت: "إنما أثج ثجاً"، (فأتيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أستفتيه فقال: إنما هي ركضة من الشيطان) ، معناه: أن الشيطان قد وجد سبيلاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها وصلاتها، حتى أنساها عادتها، وصارت في التقدير كأنها ركضه منه، ولا ينافي ما تقدم: من أنه: عرق يقال له: العاذل؛ لأنه يحمل على أن الشيطان ركضة حتى انفجر، والأظهر: أنها ركضة منه حقيقة، إذ لا مانع من حملها عليه (فتحيضي ستة أيام أو سبعة ثم اغتسلي، فإذا استنقأت فصلي أربعة وعشرين) إن كانت أيام الحيض ستة (أو ثلاثة وعشرين) إن كانت أيام الحيض سبعة (وصومي وصلي) أي ما شئت من فريضة، وتطوع (فإن ذلك يجزئك وكذلك فافعلي) فيما يستقبل من الشهور، ولفظ أبي داود: "فافعلي كل شهر" (كما تحيض النساء) في سنن أبي داود زيادة: "وكما يطهرن: ميقات حيضتهن وطهرهن". فيه: الرد لها إلى غالب أحوال النساء (فإن قويت) أي قدرت (على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر) هذا لفظ أبي داود وقوله "وتعجلي العصر" يريد أن تؤخري الظهر: أي فتأتي بها في اخر وقتها قبل خروجه، وتعجلي العصر فتأتي به في أول وقته، فتكون قد أتت بكل صلاة في وقتها وجمعت بينهما جمعاً صورياً (ثم تغتسلي حين تطْهُرين). هذا اللفظ ليس في سنن أبي داود، بل لفظه هكذا: "فتغتسلين فتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر" أي جمعاً صورياً، كما عرفت (وتصلي الظُّهْر والعصر جميعاً) هذا غير لفظ أبي داود، كما عرفت (ثمَّ تؤخرين المغْربَ والعشاء) لفظ أبي داود: "وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء" وما كان يحسن من المصنف حذف ذلك كما عرفت (ثمَّ تَغْتسلين وتجمعين بين الصَّلاتيْن فافْعلي وتغتسلين مع الصبح وتصلين، قال) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (وهو أعجب الأمرين إليَّ) ظاهره: أنه من كلامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. إلا أنه قال أبو داود: رواه عمر بن ثابت عن ابن عقيل قال: فقالت حمنة: "هذا أعجب الأمرين إلي" لم يجعله من قول النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي، وحسنه البخاري).
قال المنذري في مختصر سنن أبي داود، قال الخطابي: قد ترك بعض العلماء القول بهذا الحديث؛ لأن ابن عقيل راويه ليس بذاك، وقال أبو بكر البيهقي: تفرد به عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو مختلف في الاحتجاج به، هذا اخر كلامه. وقد أخرجه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي، هذا حديث حسن صحيح: وقال أيضاً: وسألت محمداً يعني: البخاري عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن. وقال أحمد: هو حديث حسن صحيح اهـ. فعرفت أن القول: بأنه حديث غير صحيح: غير صحيح، بل قد صححه الأئمة. وقد عرفت مما سقناه من لفظ رواية أبي داود: أن المصنف نقل غير لفظ أبي داود من ألفاظ أحد الخمسة، ولكن لا بد من تقييد ما أطلقته الروايات بقوله: "وتعجلين العشاء"، كما قال: "وتعجلين العصر"؛ لأنه أرشدها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى ذلك؛ لملاحظة الإتيان بكل صلاة في وقتها، هذه في اخر وقتها، وهذه في أول وقتها.
وقوله في الحديث: "ستة أو سبعة أيام" ليست فيه كلمة "أو" شكا من الراوي، ولا للتخيير، بل للإعلام: بأن للنساء أحد العددين، فمنهن من تحيض ستاً، ومنهن من تحيض سبعاً، فترجع إلى من هي في سنها، وأقرب إلى مزاجها، ثم قوله: "فإن قويت" يشعر بأنه ليس بواجب عليها، وإنما هو مندوب لها، وإلا، فإن الواجب إنما هو الوضوء لكل صلاة بعد الاغتسال عن الحيض: بمرور الستة أو السبعة الأيام، وهو الأمر الأول الذي أرشدها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إليه؛ فإن في صدر الحديث: "امرك بأمرين: أيهما فعلت أجزأ عنك من الاخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم". ثم ذكر لها الأمر الأول: أنها تحيض ستاً أو سبعاً، ثم تغتسل وتصلي، كما ذكره المصنف، وقد علم أنها تتوضأ لكل صلاة؛ لأن استمرار الدم ناقض، فلم يذكره في هذه الرواية، وقد ذكره في غيرها، ثم ذكر الأمر الثاني في جمع الصلاتين، والاغتسال كما عرفت.
وفي الحديث دليل على أنه لا يباح جمع الصلاتين في وقت أحدهما للعذر؛ إذ لو أبيح لعذر لكانت المستحاضة أول من يباح لها ذلك، ولم يبح لها ذلك، بل أمرها بالتوقيت، كما عرفت.
وعن عائشةَ رضي الله عنْهَا أنَّ أُمَّ حبيبةَ بِنْتَ جَحْشٍ شَكَتْ إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الدَّمَ، فقَال: "امْكُثي قَدْرَ مَا كانتْ تحبِسُكِ حيضتك، ثمَّ اغْتَسلِي" فكانت تَغْتَسِلُ لكل صلاةٍ. رواهُ مُسلمٌ.
وفي روايةٍ للْبُخاريِّ: "وتَوَضَّئي لكلِّ صلاة"، وهي لأبي داودَ وغَيْرِهِ منْ وجهٍ اخرِ.
(وعن عائشة رضي الله عنها: أن أم حبيبة) بالحاء المهملة المفتوحة (بنت جحش) قيل: الأصح أن اسمها حبيبة، وكنيتها أم حبيب بغير هاء وهي أخت حمنة التي تقدم حديثها (شكت إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الدم فقال: امكثي قدرَ ما كانت تحْبِسك حَيْضَتُك) أي قبل استمرار جريان الدم (ثمَّ اغتسلي) أي غسل الخروج عن الحيض (فكانت تغتسل لكل صلاة) من غير أمر منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لها بذلك (رواه مسلم. وفي رواية للبخاري: "وتوضئي لكل صلاة" وهي) أي هذه الرواية (لأبي داود وغيره من وجه اخر). أم حبيبة: كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وبنات جحش ثلاث: زينب أم المؤمنين، وحمنة، وأم حبيبة، قيل: إنهن كن مستحاضات كلهن. وقد ذكر البخاري ما يدل على أن بعض أمهات المؤمنين كانت مستحاضة؛ فإن صح أن الثلاث مستحاضات فهي زينب، وقد عد العلماء المستحاضات في عصره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فبلغن عشر نسوة.
والحديث: دليل على إرجاع المستحاضة إلى أحد المعرفات، وهي أيام عادتها، وعرفت أن المعرفات: إما العادة التي كانت لها قبل الاستحاضة، أو صفة الدم بكونه أسود يعرف، أو العادة التي للنساء من الستة الأيام، أو السبعة، أو إقبال الحيضة وإدبارها. كل هذه قد تقدمت في أحاديث المستحاضة. فبأيها وقع معرفة الحيض ــــ والمراد حصول الظن لا اليقين ــــ عملت به، سواء كانت ذات عادة، أو لا، كما يفيده إطلاق الأحاديث، بل ليس المراد إلا ما يحصل لها ظن أنه حيض، وإن تعددت الأمارات كان أقوى في حقها، ثم متى حصل ظن زوال الحيض وجب عليها الغسل، ثم تتوضأ لكل صلاة أو تجمع جمعاً صورياً بالغسل. وهل لها أن تجمع الجمع الصوري بالوضوء؟ هذا لم يرد به نص في حقها، إلا أنه معلوم جوازه لكل أحد من غيره، وأما هل لها أن تصلي النوافل بوضوء الفريضة؟ فهذا مسكوت عنه أيضاً، والعلماء مختلفون في ذلك كله.
وعَنْ أُمِّ عطيةَ رضي الله عنها قالت: كُنّا لا نَعُدُّ الكُدْرَةَ والصُّفرة بعْدَ الطُّهرِ شَيْئاً. رواه البُخاري وأبو داود، واللفْظُ لهُ.
(وعن أم عطية) اسمها نسيبة بضم النون وفتح السين المهملة وسكون المثناة التحتية وفتح الموحدة بنت كعب، وقيل بنت الحارث الأنصارية، بايعت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كانت من كبار الصحابيات، وكانت تغزو مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، تمرّض المرضى، وتداوي الجرحى (قالت: كنا لا نعد الكدرة) أي ما هو بلون الماء الوسخ الكدر (والصفرة) هو الماء الذي تراه المرأة كالصديد يعلوه اصفرار (بعدَ الطُّهْر) أي بعد رؤية القصة البيضاء، والجفوف (شَيْئاً) أي لا نعده حيضاً (رواه البخاري وأبو داود واللفظ له).
وقولها: "كنا" قد اختلف فيه العلماء، فقيل: له حكم الرفع إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم؛ لأن المراد: كنا في زمانه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مع علمه، فيكون تقريراً منه، وهذا رأي البخاري، وغيره من علماء الحديث، فيكون حجة؛ وهو دليل على أنه لا حكم لما ليس بدم غليظ أسود يعرف، فلا يعد حيضاً بعد أن ترى القصة بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة؛ قيل: إنه شيء كالخيط الأبيض يخرج من الرحم بعد انقطاع الدم، أو بعد الجفوف، وهو أن يخرج ما يحشى به الرحم جافاً، ومفهوم قولها: بعد الطهر، أي بأحد الأمرين: أن قبله تعد الكدرة والصفرة شيئاً: أي حيضاً، وفيه خلاف بين العلماء معروف في الفروع.
وعن أنَس رضي الله عنهُ، أنَّ اليهودَ كانوا إذا حَاضَتِ المَرْأَةُ فيهم لَمْ يُؤاكلُوها، فقَالَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اصْنَعُوا كلَّ شيءٍ إلا النكاحَ". رواه مُسلم.
وعن أنَس رضي الله عنهُ، أنَّ اليهودَ كانوا إذا حَاضَتِ المَرْأَةُ فيهم لَمْ يُؤاكلُوها، فقَالَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اصْنَعُوا كلَّ شيءٍ إلا النكاحَ". رواه مُسلم.
الحديث قد بين المراد من قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} أن المأمور به من الاعتزال والمنهي عنه من القربان هو النكاح: أي اعتزلوا نكاحهن ولا تقربوهن له، وما عدا ذلك من المؤاكلة، والمجالسة، والمضاجعة، وغير ذلك جائز؛ وقد كان اليهود لا يساكنون الحائض في بيت واحد، ولا يجامعونها، ولا يؤاكلونها، كما صرحت به رواية مسلم. وأما الاستمتاع منهن، فقد أباحه هذا الحديث، وكما يفيده أيضاً.
وعن عائشةَ رضي الله عنهَا قالت: كانَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَأمُرُنِي فَأَتُّزرُ، فَيُبَاشرُني وأَنَا حَائضٌ. متفقٌ عليه.
وعن عائشةَ رضي الله عنهَا قالت: كانَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَأمُرُنِي فَأَتُّزرُ، فَيُبَاشرُني وأَنَا حَائضٌ. متفقٌ عليه.
أي يلصق بشرته ببشرتي فيما دون الإزار، وليس بصريح بأنه يستمتع منها، إنما هو إلصاق البشرة بالبشرة، والاستمتاع فيما بين الركبة والسرة في غير الفرج أجازه البعض، وحجته: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، ومفهوم هذا الحديث، وقال بعض بكراهته، واخر: بتحريمه، فالأول أولى؛ للدليل. فأما لو جامع وهي حائض فإنه يأثم إجماعاً؛ ولا يجب عليه شيء. وقيل: تجب عليه الصدقة لما يفيده.
وعن ابن عباس رضي الله عنهُمَا عَنْ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ــــ في الذي يأتي امْرَأَتَهُ وهي حَائِضٌ ــــ قال: "يَتَصَدَّقُ بدينار، أوْ بنصْفِ دينارٍ" رواه الخمْسَةُ، وصححه الحاكم وابن القَطّان، ورَجّحَ غيرُهُمَا وَقْفَه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهُمَا عَنْ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ــــ في الذي يأتي امْرَأَتَهُ وهي حَائِضٌ ــــ قال: "يَتَصَدَّقُ بدينار، أوْ بنصْفِ دينارٍ" رواه الخمْسَةُ، وصححه الحاكم وابن القَطّان، ورَجّحَ غيرُهُمَا وَقْفَه.
على ابن عباس.
الحديث فيه روايات هذه إحداها، وهي التي خرج لرجالها في الصحيح، وروايته مع ذلك مضطربة. وقد قال الشافعي: لو كان هذا الحديث ثابتاً لأخذنا به. قال المصنف: الاضطراب في إسناد هذا الحديث، ومتنه كثير جداً، وقد ذهب إلى إيجاب الصدقة الحسن، وسعيد، لكن قالا: يعتق رقبة قياساً على من جامع في رمضان. وقال غيرهما: بل يتصدق بدينار، أو بنصف دينار. وقال الخطابي: ــــ قال أكثر أهل العلم لا شيء عليه، وزعموا: أن هذا مرسل، أو موقوف. وقال ابن عبد البر: حجة من لم يوجب: اضطراب هذا الحديث، وأن الذمة على البراءة، ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين، ولا غيره إلا بدليل، لا مدفع فيه، ولا مطعن عليه، وذلك معدوم في هذه المسئلة. قلت: أما من صح عنده، كابن القطان، فإنه أمعن النظر في تصحيحه، وأجاب عن طرق الطعن فيه، وأقره ابن دقيق العيد، وقواه في كتابه الإلمام، فلا عذر له عن العمل به. وأما من لم يصح عنده كالشافعي، وابن عبد البر، فالأصل براءة الذمة، فلا تقوم به الحجة.
وعن أبي سعيد الخُدْريِّ رضيَ الله عنهُ، قالَ: قال رسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أليسَ إذا حَاضَتِ المَرْأَةُ لم تُصَلِّ ولمْ تَصُمْ؟" مُتّفقٌ عليه، في حديثٍ طويلٍ.
وعن أبي سعيد الخُدْريِّ رضيَ الله عنهُ، قالَ: قال رسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أليسَ إذا حَاضَتِ المَرْأَةُ لم تُصَلِّ ولمْ تَصُمْ؟" مُتّفقٌ عليه، في حديثٍ طويلٍ.
تمامه: "فذلك من نقصان دينها". رواه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: "تمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في شهر رمضان، فهذا نقصان دينها" وهو إخبار يفيد تقريرها على ترك الصوم والصلاة، وكونهما لا يجبان عليها، وهو إجماع في أنهما لا يجبان حال الحيض، ويجب قضاء الصيام؛ لأدلة أخر.
وأما كونها لا تدخل المسجد؛ فلحديث: "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" وتقدم.
وأما أنها لا تقرأ القران؛ فلحديث ابن عمر: "ولا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القران"، وإن كان فيه مقال، وكذلك لا تمس المصحف لحديث عمرو بن حزم، تقدم وتقدمت شواهده، والأحاديث لا تقصر عن الكراهة لكل ما ذكر، وإن لم تبلغ درجة التحريم، إذ لا تخلو عن مقال في طرقها، ودلالة ألفاظها غير صريحة في التحريم.
وعن عائشة رضيَ الله تعالى عنها قالتْ: لمّا جِئْنا سَرِفَ حِضْتُ، فقال النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "افْعَلِي ما يَفْعَلُ الحاجُّ، غَيَرْ أنْ لا تَطُوفِي بالبَيْتِ حتى تَطْهُري". متفقٌ عليه، في حديثٍ طويلٍ.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما جئنا) أي عام حجة الوداع، وكانت قد أحرمت معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (سَرف) بالسين المهملة مفتوحة وكسر الراء ففاء: اسم محل منعه من الصرف للعلمية والتأنيث، وهو محل بين مكة والمدينة (حضت، فقال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "افْعَلي ما يَفْعَلُ الحاج غير أن لا تطوفي بالبَيْتِ حتى تطهُري". متفق عليه في حديث طويل).
فيه صفة حجه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وفيه دليل على أن الحائض يصح منها جميع أفعال الحج غير الطواف بالبيت، وهو مجمع عليه. واختلف في علته، فقيل: لأن من شرط الطواف الطهارة، وقيل: لكونها ممنوعة من دخول المسجد. وأما ركعتا الطواف، فقد علم أنهما لا يصحان منها؛ إذ هما مرتبتان على الطواف والطهارة.
وعن مُعاذِ بن جَبَلٍ رضيَ الله تعالى عَنْهُ، أنّهُ سأَلَ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: مَا يحلُّ للرَّجل من امرَأَتِه، وَهِيَ حائضٌ؟ فَقَالَ: "ما فَوْقَ الإزار". رَوَاه أبُو داود وضعّفهُ.
(وعن معاذ) بضم الميم فعين مهملة خفيفة اخره ذال معجمة، وهو أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل، الأنصاري الخزرجي، أحد من شهد العقبة من الأنصار، وشهد بدراً، وغيرها من المشاهد، وبعثه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى اليمن قاضياً، ومعلماً، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال باليمن، وكان من أجلاء الصحابة، وعلمائهم. استعمله عمر على الشام بعد أبي عبيدة، فمات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة، وقيل: سبع عشرة، وله ثمان وثلاثون سنة (أنه سأل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: ما يحل للرجل من امرأته، وهي حائض؟ قال: "ما فوق الإزَار"، رواه أبو داود وضعفه) وقال: ليس بالقويّ.
والحديث دليل على تحريم مباشرة محل الإزار، وهو ما بين السرة والركبة.
والحديث قد عارضه حديث: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" تقدم، وهو أصح من هذا، فهو أرجح منه، ولو ضمه المصنف إليه لكان أولى، وتقدم الكلام فيه. وفي حديث عائشة: "كان يأمرني فأتزر".
وعن أُمِّ سَلَمَةَ رضيَ الله عَنْهَا قَالتْ: كانت النّفَساءُ تَقْعُدُ على عَهْدِ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بَعْدَ نِفَاسِهَا أَرْبعين يوماً. رواه الخمسةُ إلا النسائي، واللفظ لأبي داود.
وفي لَفْظٍ لَهُ: ولم يأمُرها النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بقضاءِ صلاةِ النِّفاسِ، وصَحّحه الحاكم.
وعن أُمِّ سَلَمَةَ رضيَ الله عَنْهَا قَالتْ: كانت النّفَساءُ تَقْعُدُ على عَهْدِ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بَعْدَ نِفَاسِهَا أَرْبعين يوماً. رواه الخمسةُ إلا النسائي، واللفظ لأبي داود.
وفي لَفْظٍ لَهُ: ولم يأمُرها النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بقضاءِ صلاةِ النِّفاسِ، وصَحّحه الحاكم.
وضعفه جماعة، لكن قال النووي: قول جماعة من مصنفي الفقهاء: إن هذا الحديث ضعيف: مردود عليهم، وله شاهد عند ابن ماجه من حديث أنس: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "وقت للنفساء أربعين يوماً، إلا أن ترى الطهر قبل ذلك"، وللحاكم من حديث عثمان بن أبي العاص: "وقت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للنساء في نفاسهن أربعين يوماً".
فهذه الأحاديث يعضد بعضها بعضاً، وتدل على أن الدم الخارج عقيب الولادة حكمه يستمر أربعين يوماً تقعد فيه المرأة عن الصلاة، وعن الصوم، وإن لم يصرح به الحديث. فقد أفيد من غيره، وأفاد حديث أنس: أنها إذا رأت الطهر قبل ذلك طهرت، وأنه لا حد لأقله.